قضايا وآراء

إسرائيل اليوم... تقديس سياسة الوضع الراهن

ماجد عزام
1300x600
1300x600
تبنّت إسرائيل لعقدين تقريبا فكرة أن الوقت لا يعمل لصالحها، ولا يجب الركون بالتالي إلى تقديس أو تأبيد فكرة الوضع الراهن مع الفلسطينيين، والعمل للتوصل إلى حلّ تسوية معهم بشكل تفاوضي ثنائي، كما أراد اسحق رابين مثلا، أو حتى بشكل أحادي كما فعل من وصف بأنه ملك إسرائيل وأكثر قادتها تطرّفا أي أرئيل شارون.

أما الجنرال إيهود باراك والذي جاء بين الاثنين، أي رابين وشارون، فقد خاض الانتخابات تحت شعار المضي قدما في فكرة رابين للتسوية مع الفلسطينيين، والانسحاب من جنوب لبنان نتيجة لاتفاق سلام مع سوريا أو حتى بشكل أحادي، وهو ما تم فعلا لأن الجنرال لم يكن بوارد دفع ثمن التسوية لا سوريا ولا حتى فلسطينيا.

باراك الماباي المزيف واليميني المتنكر لم يؤمن في الحقيقة بفكرة المفاوضات أو التوصل إلى اتفاق ثنائي مع الفلسطينيين تحديدا، وهو ذهب إلى كامب ديفيد صيف العام 2000 لكشف القناع عن وجه الرئيس المرحوم ياسر عرفات، كما أنه اعتاد القول متباهيا ومتبجّحا ومبتدعا في السياق أكذوبة أن الدولة العبرية تفتقد إلى شريك فلسطيني، وهي مضطرة بالتالي للذهاب إلى الانفصال الأحادي الجانب عن الفلسطينيين، وهي الفكرة التي يتباهى أيضا الجنرال أنه مبتكرها وأول من وضعها بقوة على جدول الأعمال الإسرائيلي السياسي والأمني.

شارون الذي وصل إلى السلطة – 2001 - بعد إيهود باراك مباشرة تحت شعار دعوا الجيش ينتصر، ورغم كيل المديح لباراك اليميني أو الليكودي المتنكّر، إلا أنه رفض فكرة الانسحاب الأحادي باعتبارها اعتراف بالهزيمة أمام الفلسطينيين، حتى أنه وصل في العام 2003 إلى حد طرح نظرية أن حكم نتسريم كحكم تل أبيب قبل أن ينتهي به المطاف في العام الذي يليه 2004 للانضمام إلى رافضي فكرة الوضع الراهن المؤذي والضار لإسرائيل، وتبني فكرة الانفصال عن الفلسطينيين دون اتفاق سلام، واستغلال الظروف الدولية آنذاك بعد الغزو الأمريكي للعراق لفرض التسوية، ورسم حدود إسرائيل من جانب واحد، وبما يتلاءم مع مصالحها الأمنية الحيوية، ضمن ما بات يعرف بعد ذلك باللاءات الثلاثة أو لاءات الإجماع الصهيوني أي لا عودة للاجئين ولا انسحاب إلى حدود حزيران يونيو 1967 ولا تقسيم للقدس العاصمة الأبدية للدولة العبرية.

إيهود أولمرت سار على نهج من سبقوه، فقد تبنّى أولا نظرية الانفصال التي أسماها الانطواء، وخاض الانتخابات على أساسها، علما أن الخطة كانت توسيعا للانسحاب الأحادي من غزة لتشمل الضفة الغربية أيضا، غير أن أسر جلعاد شاليت نسف فكرة الانفصال الأحادي من أساسهاـ فذهب أولمرت إلى فكرة رابين عن حتمية وضرورة التسوية مع الفلسطينيين لإنقاذ إسرائيل ومستقبلها كدولة يهودية ديموقراطية، ووصل حتى إلى حد تقديم ما وصفه بالعرض الإسرائيلي الأكثر سخاء إلى الرئيس محمود عباس، رافضا تسليم خارطة الانسحاب لأبي مازن ومصرّا على التوقيع الفوري ودون تفكير، علما أن عرض أولمرت الشهير برهن على جوهر أو مأزق أزمة التسوية، حيث أن أقصى ما يمكن أن تقدمه إسرائيل لا يتساوق مع الحد الأدنى المقبول فلسطينيا مع الانتباه إلى أن عرض أولمرت تضمن اثنتين من اللاءات الصهيونية، حيث لا مكان فيه لحق العودة للاجئين، كما للانسحاب إلى حدود حزيران/ ينيو 67، وأهم ما فيه، كان بلا شك إعادة الانتشار خارج القدس الشرقية مع تدويل منطقة الحرم القدسي الشريف.

نتن ياهو من جهته ظلّ وفيّا دائما لنظريته عن استحالة حل الصراع لا ثنائيا، ولا حتى بخطوات أحادية وأسيرا لفكرة إدارة الصراع وبأقل ثمن ممكن من الناحية الإسرائيلية، رغم المراوغة في بعض الأحيان، واستخدام الحيل والألاعيب إما مراعاة للظروف الداخلية أو الإقليمية والدولية.

في ولايته الأولى 1996 ساير نتن ياهو الأجواء الإسرائيلية المؤيدة نسبيا لفكرة التسوية خاصة بعد اغتيال رابين، كما ساير الرغبة القوية للرئيس الأمريكي آنذاك بيل كلينتون في التوصل إلى حل للصراع العربي الإسرائيلي، ورغم أنه توصل إلى اتفاق وأي ريفر الذي انسحب بموجبه من معظم مدينة الخليل، إلا أنه عمل على الأرض وبجد لإفشال اتفاق أوسلو وإفراغه من مضامينه وجدواه.

في ولايته الثانية (2009) ساير نتن ياهو رئيسا ديموقراطيا آخر وضع حل الصراع على رأس أولياته بمجرد انتخابه، وهكذا تساوق ولو شكلا مع جهود مبعوث الرئيس باراك أوباما الخاص السناتور جورج ميتشل، وحتى أنه جمّد الاستيطان ولو بشكل محدود في نهاية العام نفسه، إلا أنه وضع في المقابل شرط الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية لنسف أي احتمال للتسوية أو الاتفاق واتهام الفلسطينيين بالمسؤولية عن فشل العملية.

في ولايته الثالثة (2012) عيّن نتن ياهو تسيبي ليفني كمسؤولة عن التفاوض مع الفلسطينيين مع تقييدها بمبعوثه ومساعده الخاص اسحق مولخو، وهو تعمّد إفشال جهود جون كيري في ولاية أوباما الثانية، كما استغل انكفاء هذا الأخير عن المنطقة وسعيه للتوصل إلى اتفاق أو تسوية مع إيران، ليس فقط للفت الانتباه عن الاحتلال الإسرائيلي وإزاحته عن جدول الأعمال الإقليمي، وإنما لابتزاز الإدارة وانتزاع مكاسب أمنية واقتصادية منها، ناهيك عن غض الطرف وحتى نسيان الملف الفلسطيني نهائيا.

في الولاية الثالثة لنتن ياهو حصل أمر مهم، خاصة بعد فشل عملية التسوية وانهيارها التام ربيع العام 2014، وبينما تبجّح وزير الدفاع موشيه يعلون بنجاحه في إقناع البيت الأبيض بأنّ الصراع غير قابل للحل وإنما الإدارة فقط، حصل تحوّل نوعي عند وزير الخارجية السابق اليميني المتطرّف أفيغدور ليبرمان الذي حاول التمايز عن نتن ياهو، وربما تلميع وتبييض صورته كرئيس للديبلوماسية الإسرائيلية بطرحه فكرة الحلّ أو التسوية الإقليمية، ولكن مع الدول العربية وليس مع السلطة الفلسطينية، في تحديث ما لفكرة حزب العمل السابقة والقديمة عن الخيار الأردني.

في ولايته الرابعة الحالية بدا نتن ياهو أكثر راحة وبات يتحدث بصراحة ودون مواربة عن الحفاظ على الوضع الراهن وعلى كل الجبهات، وعن استحالة نجاح حلّ الدولتين، متنصّلا في السياق من خطاب بار أيلان الذي قبل فيه فكرة حل الدولتين ، بينما وصل وزير دفاعه الستينية موشيع يعلون إلى حد القول باستحالة التوصل إلى أي اتفاق في حياته، مضيفا بسخرية وفظاظة أنه يعتقد سيعيش طويلا.

سياسة الوضع الراهن تتضمن حسب نتن ياهو عدم القيام بأي خطوات جذرية أو كبرى، لا سلما ولا حربا، بمعنى أن لا اتفاق مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية مع السعي لمنع انهيارها كما باعتبارها مصلحة إسرائيلية، لأن البديل سيكون أكثر سوءا حسب التعبير الحرفي لرئيس الوزراء الإسرائيلي الاثنين الماضي في باريس على هامش مشاركته في قمة المناخ.

في غزة تأخذ سياسة الوضع الراهن شكلا آخر يتضمن عدم رفع الحصار عن غزة، بل تخفيفه فقط، وعدم تنفيذ تفاهمات أو استحقاقات وقف إطلاق النار صيف العام الماضي، حتى بالمعنى التقني مراعاة للموقف المصري، وحتى الفلسطيني الرسمي الرافض، وفي نفس الوقت تحاشى الذهاب إلى حرب واسعة أخرى أقله في المدى المنظور لإبقاء المشكلة في سياقها الفلسطيني – الفلسطيني، وحتى الفلسطيني – المصري.

تقديس سياسة الوضع الراهن تمتد إلى الحدود الشمالية مع لبنان وسوريا، حيث الحفاظ لبنانيا على الوضع الهادئ بعد حرب تموز وترك حزب الله غارقا في معركته اليائسة والخاسرة إلى جانب النظام السوري الميّت إكلينيكيا واستهداف الحزب في سوريا وليس في لبنان، ضمن سياسة وضع راهن أخرى تشمل الحفاظ على الواقع الحالي في سوريا، أي نظام ضعيف محاصر مع عدم الحسم لصالح الثورة والمعارضة وخطوط حمر تتضمن عدم إيصال أسلحة نوعية كاسرة للتوازن إلى حزب الله، والعمل على التخلّص من أو إضعاف أسلحة الدولة السورية الاستراتيجية مخافة الانتقال إلى النظام الجديد.

غير أن العجرفة الإسرائيلية المعتادة تجلت في محاولة تحسين أو تغيير الوضع الراهن بمعنى فرض وقائع وحقائق جديدة على الأرض، ووضعها تحت إطار الوضع الراهن. وهذ ما جرى مع المحاولة الفاشلة لتقسيم الحرم القدسي الشريف، كما في محاولة انتزاع تأييد أمريكي ودولي لضمّ هضبة الجولان في العام 1980 بعدما باتت فكرة التسوية بعيدة، وحتى مستحيلة فلسطينيا وحتى عربيا.

هل ستنجح فكرة الوضع الراهن على المدى الطويل؟ بالتأكيد لا، لأن المشكلة الفلسطينية هي أصل المشاكل والأزمات الإسرائيلية، ولأن عدم حلها يفاقمها ولا ينهيها، ولأن الشعب الفلسطيني حتى مع الانقسام السياسي الحالي ومع الانفضاض الإقليمي والدولي -حتى قبل الثورات- عن القضية الفلسطينية لن يستسلم.

وفي النهاية ستفرض مسيرة عناده وصموده الطويلة، كما حقائق التاريخ والجغرافية السياسية نفسها ولو بعد حين.
التعليقات (0)