قضايا وآراء

الضفة عقدة الصراع

علي البغدادي
1300x600
1300x600
بكتابة هذه السطور يكون قد مر على حراك أو هبة أو انتفاضة الضفة، ستة أسابيع إذا اعتبرنا البداية كانت مع عملية الشهيد مهند الحلبي رحمه الله.. لم يكن بمقدور المتفائلين أن يتصوروا أن هذا الحراك يمكن أن يستمر حتى هذه اللحظة، ذلك أن أحداثا مشابهة بل ربما أكثر دموية قد مرت على الضفة وغزة والمنطقة دون أن تكون ردة الفعل في الضفة بهذا الحجم والاستمرارية.

خاضت غزة ثلاثة حروب دموية ولم تكن ردة الفعل في الضفة بمستوى الطموح المطلوب، محاولات عديدة قامت بها فصائل المقاومة لتثوير الشارع الضفي لكنها لم تنجح، ولم يخل الأمر من عمليات بطولية كانت تحدث بشكل متفرق وسرعان ما كان يتم القبض على منفذيها من قبل سلطات الأمن الفلسطينية أو الإسرائيلية.

تكلم كثيرون في تفسير هذه الظاهرة حتى وقت قريب، بل حتى عندما حدثت جريمة حرق عائلة الدوابشة في شهر سبتمبر/أيلول الماضي كتب محللون يتساءلون: لماذا تأخر رد فعل الفصائل الفلسطينية؟

لقد كان للشعب الفلسطيني في الضفة رأي آخر فلا أحد يملك زرا يضغط على لونه الأخضر فيخرج الشعب ثائرا ويضغط على لونه الأحمر فيعود لبيته، إن مخزونا نضاليا هائلا يكمن في أعماق هذا الشعب وهو سينفجر بركانا هادرا عندما تتوفر الظروف والبيئة والنضج الكافي لمثل هكذا تحرك. 

لذلك كان هذا الحراك متفردا في انطلاقته متفردا في أسلوبه متفردا في حجمه، يرسم طريقه بمخاض تراكمي عسير، لكنه يتقدم يوما بعد يوم بإصرار عجيب متحديا جميع العوائق التي تجعل استمراريته أمرا غير مقبول في حسابات المنطق، لكنه قائم فعليا في حسابات الواقع التي أدركها ذلك الشاب وتلك الشابة وكل من خرج متمنطقا سكينه، عازم على الإثخان في العدو، لا يبالي أوَقع على الموت أو وقع الموت عليه.

وللنضال الثوري مع تاريخ الشعب الفلسطيني صولات وجولات لا تهدأ جبهة حتى يفتح أخرى، منذ عهد الانتداب البريطاني وثورة الشهيد عز الدين القسام وثورة البراق، إلى عهد الاحتلال الصهيوني حيث بدأ الكفاح المسلح من الخارج للداخل، ثم اندلعت الانتفاضة المباركة لتشكل حراكا جماهيريا عارما شمل الأراضي الفلسطينية كلها، ثم جاءت انتفاضة الأقصى المسلحة التي لمعت بها بطولات الضفة، لتتسلم الراية بعد ذلك غزة المحاصرة وتخوض ثلاثة حروب عسكرية وجها لوجه مع جيش الاحتلال وتمرغ وجهه في التراب، حرب استنزاف مستمرة بشكل تلقائي تارة يخوضها أهل الخارج وتارة أهل الضفة وتارة أهل غزة.

لذلك كان التساؤل حاضرا عندما قامت الشعوب العربية بثوراتها: أين الشعب الفلسطيني؟ أين هذا الشعب الملهِم؟ لقد أدهش الشعب الفلسطيني بصموده وجهاده الشعوب العربية واستلهمت منه إمكانية الثورة والمبادرة، لكنها عندما قامت بقي ساكنا ولم يقم معها.

في ظني كانت هذه معضلة أساسية ودرس مستفاد يغيب عن الجميع، فالفهم الشامل للصراع والرؤية المتكاملة لكيفية التعامل معه كانا غائبين عندما اندفع شباب كل دولة في محاولتهم لتغيير أنظمة الحكم في دولهم وظنوا أن كل دول بمفردها قادرة على أن تقوم بثورة وحدها تنعم بعدها بالحرية والازدهار، ورغم توافر الظروف المناسبة لتحقيق التكامل إلا أن موجة التغيير كانت قُطرية الطابع بينما جاءت موجة الثورة المضادة إقليمية شاملة، وهذه مفارقة غريبة أن يكون جيل التغيير في حراكه مكرسا لحدود سايكس بيكو بينما تحرك خصومه الرجعيين عابر للحدود.

إننا في دراستنا لأي صراع سياسي يجب أن نقرأ مشهد الصراع جيدا وندرس الأسباب التي تحول دون تحقيق النصر أو إنجاز الهدف المطلوب، ونغوص في العمق لنلامس عقدة هذا الصراع، تلك العقدة الكامنة التي إذا انفكت انهارت بعدها قوى الخصوم تباعا، إن هذا التركيز يحمينا من استنزاف قدراتنا في صراعات جانبية ليس لها بعدها الاستراتيجي المؤثر ويسهم في تحديد خيارات المواجهة.

افتحوا الخرائط وانظروا للمنطقة: كيف يمكن معالجة فوضى الطائفية والإقليمية والتفتيت؟ وكيف يمكن تحقيق الديمقراطية والتعددية؟ وكيف يمكن الانخلاع من التبعية؟ وكيف يمكن حقن الدماء وصون الأعراض وتوفير الأموال؟

إن المنطقة قد دخلت في نفق لا يمكنها الخروج منه إلا بإعادة توجيه البوصلة في الاتجاه الصحيح، نحو الصراع الاستراتيجي الذي يجب أن يخاض ومن خلاله تكتشف الأمة ذاتها وتعيد تعريف نفسها وتبدأ مسيرة نهضتها.

لذلك ليس عجبا أن تبادر حكومات عربية بالاتصال (بالجانب الإسرائيلي) لتهدئة الأوضاع في الضفة ومنع (تدهورها) لأنها تدرك أن اندلاع مواجهات عارمة في الضفة من شأنه أن يقلب المعادلة الإقليمية على راسها.

لقد قام هذا الحراك الأخير في الضفة ليذكر الناس بأن هذا هو اتجاه البوصلة الصحيح، وليظهر أن القدس لا تزال في قلب وعقل كل مسلم وعربي، وليت أولئك الذين يستبسلون في قتالهم لبعض يوجهون سلاحهم إلى صدر عدوهم المشترك.

وقدر أهل الضفة أن أرضهم هي عقدة الصراع، وأن أمل الأمة متعلق بهم وبوعيهم وبحراكهم، وأن الأمة لن تقوم إلا بهم، وأنهم الشعلة التي تضيء للأمة التائهة طريقها، وأن عليهم مسؤولية تتجاوز حدودهم الجغرافية لتشمل الإقليم كله، ذلك قدر كل من اختار أن يعيش بأكناف بيت المقدس فهم من حيث المسؤولية في جهاد دائم إلى يوم القيامة، ومن حيث الإمكانية لا يضرهم من خذلهم، وما أجدرهم بهذا الدور.
التعليقات (2)
عدنان ابو محمد
الإثنين، 16-11-2015 07:01 م
الطرح راقي ولقد ذكرت جوانب لابد ان نقف عندها بالتحليل والتفكير كثيرا. ان طرح ان الضفة عقدة الصراع ، لا بد ان يكون الدافع الذي يدفع الأمه بشبابها ليقوم مع الانتفاضه قوي . ان الذي يؤجج هذه القوه هو استمرارية الانتفاضة و تقديم المزيد من الدماء الطاهره . كذلك الاعلام الذي يؤكد معايشة الامه للانتفاضه.
سامر ناصر
الإثنين، 16-11-2015 06:48 م
رااااااائع أستاذ علي