قضايا وآراء

الشباب التونسي والمشاركة السياسية : بينهما برزخ!

أمان الله الجوهري
1300x600
1300x600
تجمع التقارير الإحصائية والمتابعات على ضعف انخراط الشباب التونسي في النشاط السياسي، رغم ما يبديه من اهتمام بمجرياتها ومن ثقة في الديمقراطية كنظام سياسي بديل عن الاستبداد يمكن إنجاز الإصلاحات من خلال ما يوفره من آليات.

مثلا، أشار استبيان أنجزته منظمة "أنا يقظ" حول الديموقراطية التشاركية إلى أنّ أكثر من 80 في المئة من الشباب مقتنعون بأهمية الديمقراطية التشاركية، وأن 66 في المئة كانوا قد تابعو أشغال المجلس الوطني التأسيسي، وأنّ 52 في المئة مهتمون بالسياسة، و5 في المئة فقط من هؤلاء ينشطون بالأحزاب.

من الحركة والفاعلية والقدرة على التأثير في مسار العملية السياسية خلال الحراك الثوري من 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 حتى 15 تموز/ يوليو 2011 (تاريخ محاولة تنظيم اعتصام القصبة 3 وقمعه من قبل السلطة)، انتقل الشّباب التونسي سريعا إلى العزوف وإلى ما يمكن اعتباره مقاطعة للعمل السّياسي إثر انتخابات 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2011. إنّ تغيّر موقعٍ الشباب في المشهد السياسي من الرّيادة إلى الهامش بتغيّر قاعدة الفعل من الفعل الجماهيري المفتوح غير الخاضع للقيادة إلى الفعل الحزبي، ليدفع للاعتقاد بأن الشّباب لا يرفض العمل السياسي بقدر ما يرفض الاندماج ضمن الخارطة السياسية بما هي عليه. ويبدو أن متابعة الشباب التونسي للشأن السياسي كانت تزيده، بمرور الوقت، بعدا عن الانخراط الفعلي في الحياة السياسية وعزلة عن الطبقة السياسية بمختلف مكوناتها، كان هذا واضحا من خلال عزوف الشباب عن المشاركة في الانتخابات التشريعية والرئاسيّة الماضية (تشرين الأول/ أكتوبر - تشرين الثاني/ نوفمبر 2014).

بالإضافة إلى الشعور بالحذر من كل ما يتعلق بالسلطة والحكم لدى الشباب، مثّلت القيود التي كان يفرضها الاستبداد على الحياة السياسية حاجزا بين النخب السياسية المعارضة لنظام ابن علي والمجتمع التونسي ولا سيّما جيل الشّباب الذي نشأت أغلبيته الساحقة بينما كانت تلك النخب بين سجين ومنفيّ ومحاصر. لقد انعكست هذه القطيعة القسريّة بشكل واضح على قدرة تلك النخب على التواصل مع الشّباب واستيعاب مشاغلهم وأولوياتهم، وعلى قدرة الشباب على منح ثقته لهؤلاء الذين ظهروا فجأة بعد سقوط ابن علي "للركوب على الثورة" والوصول للسلطة كما قيل. وقد مثّل هذا السّياق بداية القطيعة التي زادها السلوك السياسي للأحزاب والحكومات المتعاقبة عمقا واتّساعا.

لقد كان من الواضح خلال السنوات التي تلت الثورة أن مضمون الصراع السياسي في تونس كان بعيدا تماما عن الشعارات السياسية والاجتماعية التي رفعها الشارع الثائر والتي كانت تلخّص، بشكل ما، تطلّعات الشباب التونسي وأولويّاته. لم يكن الصراع السياسي في تونس، مثلا، حول رؤى تتعلق بسياسات التشغيل أو التنمية أو إصلاح المؤسّسات، بل كان صراعا محموما حول خلافة النّظام السابق بشحنة هويّاتية وثقافيّة مرتفعة في غياب شبه كامل للبرامج السياسيّة الجديّة التي تتنافس في الاستجابة لاستحقاقات الثورة. بينما كان الشباب التونسي يتطلّع للتغيير وبناء المستقبل، كانت النخب السياسية التونسية تخوض صراعا مؤجّلا نشأ في الجامعات منذ سبعينيّات القرن الماضي حال الاستبداد بينهم وبين استكماله.

سجّل الشباب التونسي بانتباه ما اتّسم به أداء السياسيّين من ارتباك وغياب للرؤى والبرامج، وانهماكهم في صراعهم المفرغ من أي مضمون سياسي يتماهى مع اهتمامات الشباب الذّين حافظوا خلال تقييمهم للعملية السياسية على سلّم الأولويات الذي نادت به الثورة، فيما كان السياسيّون يحدّدون أولوية بعد أخرى دون تحقيق أيّ منها. وقد أشار تقرير "أنا يقظ" المشار إليه في بداية المقال إلى أنّ الشباب يرتبون الأولويات كالآتي: التشغيل ثم التنمية ثمّ مقاومة الإرهاب وهو ما يتناقض مع أولويات السياسيّين التي تتصدّرها مقاومة الإرهاب.

بالإضافة إلى ما سبق من ملاحظات حول أداء النخب السياسيّة والسياقات التي أنتجت المشهد الحالي، والتي يمكن أن تفسّر أسباب عزوف الشباب عن العمل السياسي، فإنّ واقع الأحزاب السياسيّة التونسيّة من حيث إدارتها يمثّل سببا مهمّا يفسّر الظاهرة، على الأقلّ باعتبار عجزها عن علاج الظاهرة وفقدانها لأدواته. فالأحزاب السياسية التونسية هي إمّا أحزاب "انشطاريّة" غير مستقرّة ذات "ضغط زعاماتي عال" قابلة للانفجار في كل لحظة وغير مؤهّله لحمل المشاريع السياسيّة الكبرى، وإمّا امتداد للنظام القديم، وهذا كاف لاستمرار عزلتها عن الشباب، وإمّا أجسام ضخمة ومترهّلة تخضع لمعايير الأقدمية والولاء، فرص الشباب للتغيير أو التعديل داخلها منعدمة تقريبا، وهو ما يتّضح من خلال تغييب الشباب عن مواقع القيادة والقرار، ويتمّ استيعابهم ضمن بيروقراطيّة حزبيّة توفّر بيئة ملائمة لتفشّي الانتهازية أو العودة للالتحاق بالأغلبية المقاطعة للأحزاب.

لم يُكتب للحركة الثورية الشّابة أن تفرز نخبها التي تعبّر عن طموحات الشباب المطالب بالتغيير وتترجمها إلى برامج سياسيّة، واستُدرج الشباب لخوض المعركة حول الهويّة التي اشتعلت نارها في الأشهر التي تلت اعتصام القصبة 2 وسبقت انتخابات 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2011، وانخرط فيها الإعلام والمكونات السياسية الكبرى وانحرفت بالجميع عن استحقاقات الثورة، وكان من نتائجها المباشرة فشل اعتصام القصبة 3 آخر محاولات الحفاظ على الزخم الثوري. لكنّ الحاجة اليوم لأشكال جديدة تنظم وتستجيب لطموحات الشباب كما عبّرت عنها ثورة 17 كانون الأول/ ديسمبر المجيدة، يبادر إليها الشباب أنفسهم تبدو ملحّة. خروج الشباب التونسي الذي آمن بالثورة وانخرط فيها من منطقة البرزخ السياسي بين الاهتمام والمشاركة الفعلية؛ يمكن أن يمثّل فرصة جديدة لإنهاء حالة السلبية وانعدام التأثير التي يعيشها الشباب التونسي، وتخلّص المشهد السياسي من حالة الرداءة التي تطغى عليه.
التعليقات (0)