قضايا وآراء

ثلاث حكايات وتضليل واحد

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
الحكاية الأولى: ذكرها عبد اللطيف بغدادي في مذكراته، وقال فيها إن "ستة انفجارات حدثت في اليوم ذاته في القاهرة في السكة الحديدية والجامعة وجروبي بوسط البلد"، وقال له عبد الناصر بعدها إنها كانت من تدبيره لإثارة نفوس الناس، ليشعروا أنهم بحاجة لمن يحميهم، وكان هذا لضيقه من سياسة اللين والميوعة الظاهرة في موقف الحكومة، بينما كان محمد نجيب مُصِرا وقتها على اتخاذ الإجراءات العادية ومعارضا في اتخاذ أية إجراءات استثنائية.

الحكاية الثانية: حادثة مشهورة إعلاميا بـ "فضيحة لافون" نسبة إلى وزير الدفاع الإسرائيلي وقتها بنحاس نافون، الذي أمر بتنفيذها في القاهرة ضد أهداف أمريكية وبريطانية، وقد أصابت هذه الفضيحة مدير المخابرات الذي نفذ العملية ووزير الدفاع، بل وأصابت بن جوريون نفسه مؤسس إسرائيل، وكان الغرض منها الإسراع بتهجير اليهود من مصر وتأليب الرأي العام الدولي على النظام الجديد، وكانت إسرائيل نفسها من فعلها وهي الطرف المستفيد أولا وآخرا.

الحكاية الثالثة تقول إن هيتريش هيملر، قائد الحرس الأسود في النظام النازي والمساعد السابق لجوزيف جوبلز وزير إعلام هتلر، سُئل عن العصابات المسلحة التي تسرح وتمرح في بافاريا، وتقتل وتخرب، فقال: "نعم ولكن ليس هناك منها عدد كاف"، في إشارة إلى أنه هو من يرعاها وينظمها.

مدرسة هيملر مدرسة عتيقة لصناعة الإرهاب تتلمذ فيها، ولا زال يتتلمذ، الكثير من رواد ذلك الفن الأسود المريب.
 
الحكايا الثلاث تقول لنا إن الصورة ليست كما تبدو أمام أعيننا وقت التقاطها، فالصورة لها لقطات أخرى تم إخفاء أكثرها إظهارا للحقيقة، لكن المؤكد أن الضحية هي أعيننا ووعينا بحقيقة الأشياء، والمؤكد أكثر أن المستفيد من العنف والإرهاب هو الطرف الأقوى والأكثر تحكما في زوايا المواضيع، والوصول إلى استنتاج يشير إليه بإصبع الاتهام كما ترون ليس صعبا.

لنصل إلى حقيقة تقول أن العنف والإرهاب لا يهدد النظم السياسية المستبدة بشكل مباشر، على عكس النضال السلمي الذي يصيب هذه الأنظمة بالهلع، إذ أنها ستعتبر النضال السلمي هو السبب الحقيقي للعنف، حتى تبدأ المرحلة الأخطر وهي بداية استعمال النظام المستبد نفسه للأفراد والجماعات العنيفة من أجل تشويه حراك المناضلين السلمي، وسنرى ذلك على نطاق دولي واسع وستتم تطبيقاته بحرفية وتقنية مروعة.

سيزول السحر عن الساحر.. وستجد المستبد -أي مستبد- نفسه يرتكز بشكل رسمي إلى العنف العاري الهمجي، وسيعلن عن ذلك جهارا نهارا، بعيدا عن جميع مواثيق حقوق الإنسان كما نشهده في بعض البلدان! 

وهنا ما يؤدي في نهاية الأمر إلى حالة خراب اقتصادي واجتماعي وسياسي عريض وحقيقي ومرعب في ظل سياسات ترقيعية تخلو من أي أفق استراتيجي للنظر إلى المستقبل.

وهو ما يطرح سؤالا خطيرا: إلى أي حد يمكن للنظام السياسي المستبد أن ينزلق إلى استعمال العنف العاري في مواجهة حالة اعتراض ونضال سلمي ينشد التغيير والإصلاح الحقيقيين؟

ستكتشف الأجيال الشابة الصاعدة أن قبولها بنظام سياسي مستبد هو قبولها بأن تتحول إلى قوة بطالة عاطلة لا تحمل أي أمل وأي مستقبل، ولا يمكنها التعويل على سياسات هشة فاشلة عانت منها الأجيال السابقة؛ خاصة بعد ما عرفوا قدر الخراب والتدمير الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي الذي جرى لوطنهم على أيدي الثلاثة السابقين "جمال وأنور وحسنى"، ما كان أن ضيع على بلادهم الحبيبة فرصة لا تعوض في أن تكون ضمن البلدان المتقدمة.

ولهذا فقد فضل أغلب هؤلاء الشباب أن يواصلوا نضالهم السلمي، في الوقت الذي سنجد فيه شبابا يتورط في العنف الهمجي بسهولة بسبب غياب الأفق وسيجد من يرحب به ليزداد في عنفه وتزداد الصورة انعكاسا.

التطبيع مع العنف والإرهاب، ثم إعادة إنتاجه، بدأ يتحول إلى مظهر آخر من مظاهر شرعية (الدولة القومية الحديثة) التي تقاوم الانتقال الديمقراطي، والتجربة السورية هي النموذج المكتمل لهذا المعنى، رغم ما فيها من خصوصيات طائفية واحتكاكات إقليمية، إلا أن المشهد بدأ ثوريا وشعبيا في سياق ظرف تاريخي متشابه "الربيع العربي"، فما كان من النظام البعثي إلا المسارعة فورا إلى تنصيب قوائم جديدة ومختلفة تماما عن الحالة العربية.

لا ننسى أن نشير إلى دور الدولة الحديثة القاهرة الكاسرة في "صناعة العنف" داخل الفرد وتحويله إلى "إنسان عنيف" من خلال معاملتها له، في الخدمات والمصالح والشوارع وأقسام الشرطة.. الخ

والقارئ الجيد لصفحات الحوادث سيذهله طبيعة ونوعية العنف المستخدم في الجرائم الاجتماعية بين الناس.

وسائل الإعلام أداة مثالية للمشاركة في تلك المأساة من خلال نقلها للأخبار والمعلومات والصور والأفكار والآراء المختلفة بشأن موضوع "الإرهاب"، وهي عنصر بالغ التأثير في الوعي العام للفرد في غياب منظمات التنوير والوعي الحقوقي وفي غياب السياسة وأبنية السياسة المختلفة من أحزاب وجمعيات ومنظمات مدنية.

من خلال إعلاء وتعظيم فكرة "الحرب على الإرهاب" سيتم جر الناس تدريجيا إلى ساحة العنف والإرهاب، وسيُبذل جهد هائل وبكل الوسائل لإثبات أية علاقة بين المعارضين السلميين وبين استخدام السلاح.
وهنا بالضبط يكمن الاختبار الصعب الذي يتعرض له المواطن الصالح في كل وقت ومكان.
التعليقات (0)