قضايا وآراء

سلطة أوسلو.. من يصطنع الأوهام ليبقى

هشام الحمامي
إذا كان هناك من يصطنع الأعذار ليرحل، فهناك من يصطنع الأوهام ليبقى.. (الأناضول)
إذا كان هناك من يصطنع الأعذار ليرحل، فهناك من يصطنع الأوهام ليبقى.. (الأناضول)
إذا كان هناك من يصطنع الأعذار ليرحل، فهناك من يصطنع الأوهام ليبقى، وصدق من قال أن أعظم (مخاطر الحياة) لا تأتي من الأعداء، بل من (الحلفاء) الذين يزعمون العمل من أجل قضيتنا المشتركة.  قد تكون في الجملة بعض المبالغة، فالعدو سيبقى عدوا، لكنه بالفعل تمثل هذه الأصناف من البشر مخاطر حقيقية في حركة الحياة والتاريخ، خاصة وقت الأزمات، وهم موجودون في كل وقت وحين وفي كل زمان ومكان.

وكلهم يشربون من كأس السم للتجربة! وهي ظاهرة بشرية فريدة يتشابه فيها هذا الصنف من البشر مع الحيوانات المحرومة من التفكر والتدبر.

***

كلنا سمعنا وزير الدفاع غالانت متحدثا عن غزة في (اليوم التالي للحرب) باعتبار أنهم يملكون زمام الموقف والمبادرة والفعل، وبالتالي فحركة الزمان للأمام، لابد أن تمر عبرهم، فهم وكما شهدت لهم الشهور الستة الماضية من الحرب.

وسيظلون في هذا الوهم فترة غير قليلة على فكرة، فليس ذلك فقط نوع من الحرب النفسية، بأنك ما زلت قويا.. بل حالة نفسية مركبة تتلبس الشخص المنزوع من حالة سابقة على حين غرة فيجد نفسه بلا حول ولا طول، إن يكن من أمر، فقد وقف غالانت شامخا شموخ (القادة الرومان)، ليعلن علينا أنه قرر تسليم غزة لدحلان أو ماجد فرج؟ أي منهما.

***

ماجد فرج (61 سنة) رئيس المخابرات الفلسطينية.. رجل همام، هامة وعلامة ويحظى بقبول أمريكي وإسرائيلي كبير وله أدوار خطيرة في التنسيق الأمني بين السلطة وإسرائيل ومعروف تعاونه مع الـ (سي آي إيه) في الكثير من الملفات.

محمد دحلان (64 سنة) هو أيضا يحظى بقبول أمريكي إسرائيلي كبير، وهو يمثل ذلك (النوع اللذيذ) من البشر الذى شهدته الحياة العامة في مصر خلال الأربعين عاما الماضية، وهو النوع الذى سبق أن قدمته لنا الراحلة (أروى صالح ت/1997م) في كتابها المعروف (المبتسرون)..

وهو على وصفها، النوع الأكثر ثقلا من غطاء حجري لقبر مهجور، ويهرع مهرولا إلى حلم قديم يطارده، ويقبع في مكان ما بين الدوافع الخفية ونداء الواجب.

***

لكن المشكلة مع السيد دحلان أنه ليس فقط (يصدق نفسه)! بل استطاع أن يجد من يصدقه، السيد ماجد فرج لا تعنيه كلمات مثل التاريخ والزعامة والعبقرية السياسية، طموحاته عادية جدا ليس أكثر من (شيخ غفر) في قرية، دحلان ما زال يعيش ضوضاء الغرائز الأولى، ودائما لديه (وهم) الإحساس بمسؤوليات كبرى، تجاه تعديل مسار التاريخ!

يقولون إن القائد المغولي (تيمور لنك) حين دخل بغداد، سأل أحد العلماء أن يمنحه لقبا مثل الخلفاء العباسيين الواثق بالله.. المتوكل على الله.. المعتضد بالله.. فاختار له الرجل لقب ( نعوذ بالله) !!.

***

إذا كان فيكم شموخ قديـم فكيف ارتضيتم حـياة الرمم؟! تنامون حتى يموت الصباح، وتبكون حتى يثور العدم..

شيء مؤسف في الحقيقة وأكثر من عار، أن تؤول (منظمة التحرير) إلى هذا المآل، وتحديدا حين اختارت الذهاب إلى أوسلو 1993م لتحصل على حكم ذاتي محدود في الضفة وغزة دون الحصول على أي شيء، لا القدس ولا حق العودة ولا دولة ذات سيادة.

شيء مؤسف في الحقيقة وأكثر من عار، أن تؤول (منظمة التحرير) إلى هذا المآل، وتحديدا حين اختارت الذهاب إلى أوسلو 1993م لتحصل على حكم ذاتي محدود في الضفة وغزة دون الحصول على أي شيء، لا القدس ولا حق العودة ولا دولة ذات سيادة.
ومفهوم تماما سبب التحول الدراماتيكي في سياسة إسرائيل وقتها، بوضع يدها في يد عرفات والمنظمة، فقد كان (المارد) الذي يقاتل الآن في غزة، يتشكل في بطون الانتفاضة الأولى (1987م) والثانية (2000م)، وسبحان الله العظيم الذي قدر الأقدار، وخلق كل شيء فقدره تقديرا.

رحم الله من قال: أخشى ما أخشاه، أن تصبح الخيانة (وجهة نظر) إنه الشهيد صلاح خلف (أبو إياد) الذى قتلته إسرائيل فى تونس عام 1991م، وأبو إياد هو الأب الروحي للانتفاضة الأولى وقد كان لا بد من التخلص منه قبل الذهاب إلى عرفات، وتهيئة الأجواء لأوسلو ومنتجاتها.

***

هل ما زال هناك بعض الوقت تستطيع فيه المنظمة استبقاء ماء وجهها، وحفظ ما تبقى منه في الدقائق الخمس الأخيرة؟ استبعد ذلك ليس فقط لأنه ليس لديهم ما يقدمونه، ولكن أيضا وهو الأهم، أن بعض قادتهم قد وصل إلى أحط الأعماق، ومستعدون لبيع العالم كله، بأتفه ثمن من أجل مصالحهم الشخصية.

***

المدهش، أن العالم كله يعرف أن تاريخ الشرق الأوسط يكتب الآن من جديد، وأن معادلة أخرى تختلف كليا، يتم الآن تسكين أرقامها الصحيحة، في أماكنها الصحيحة.

وهذه حقيقة يصل إليها الإدراك الواقعي البسيط، قبل أن يصل إليها الإدراك الاستراتيجي الفاعل، الرئيس بايدن وصف هجوم 7 أكتوبر (طوفان الأقصى): بالحدث الذي سيغير العالم، ويتردد صداه خلال القرن الـ21.. وهذه حقيقة.

ولكن إدراكها على وجهها الأكمل، مختلف بحسب الفهم والاستيعاب، على نحو ما فسر لنا المفكر الإنجليزي الشهير (توماس كارلايل ت/1881م) موقف الناس تجاه الثياب البالية، فمنهم من لا يرى أنها بالية، ومنهم من يتردد قبل أن يغيرها، ومنهم من يسارع فورا لتغييرها، والرمز واضح بالطبع غلى المقصود من التشبيه.

وطبعا المنطقة العربية عاشت في الحالة الأولى عشرات السنين.

ولن نذهب بعيدا إذا قلنا إن حركة المقاومة الإسلامية، كان لديها مؤشر تاريخي دقيق، وحاد في العشر سنوات الأخيرة، وأدركت فورا أن وقت (تغيير الملابس) هو الآن وحالا، وبالإقدام ترفع الأقدام كما يقال.

***

اليوم ونحن في الشهر السادس من هذه الحرب التاريخية الكبرى، وبعد أن تكشفت لنا كل الأشياء، ولم يبق للأرض من سر تكاتمه إلا وقد أظهرته بعد إخفاء.

كل الأسماء تمت إعادة أسمائها الصحيحة إليها بعد طول اختفاء.

فئة المنافقين (بعضهم من بعض) كما أخبرنا القرآن الكريم عنهم، أطلوا برأسهم ومدوا الأعناق هنا وهناك، فهذا وقتهم، والكلاب تعرف بعضها بالنباح.

***

رحم الله الفاروق عمر، الذي ترك لنا سيرة نتذكر منها الأن سطرا يكاد ينطبق على ما قامت به المقاومة من اليوم الأول، وهو ما ذكرته عنه أمنا الكريمة الحبيبة السيدة عائشة: (كان والله أحوذيا، أعد للأمور أقرانها).

وهو والله ما أعدته وسعت إليه، واستطاعته المقاومة في غزة، من كل باب وبكل سبيل.
التعليقات (0)