كتاب عربي 21

دولة العمق وفشل المسار الانقلابي

محمد هنيد
1300x600
1300x600
المشهد اليوم بعد ما يزيد على أربع سنوات من اندلاع ثورات الحرية العربية يراوح مكانه عبر مجموع الأزمات التي تتخلله في أكثر من دولة عرفت ثورات شعبية أطاحت برأس الاستبداد. الربيع العربي فاجأ الجميع بمن فيهم الثوار أنفسهم الذين لم يتسلموا السلطة بل تسلمتها أحزاب سياسية هي في قسم كبير منها جزء من النظام الاستبدادي الذي عملت عن وعي أو عن غير وعي على إعادته إلى المشهد.

النظام العسكري المصري هو أحسن تمثيل عربي للمنوال الانقلابي من خلال مستويات عديدة وعلى رأسها وحشية التصفية التي شملت كل المنجز الثوري وخاصة المنافسين على السلطة والذين صدرت في حقهم أحكام خيالية بالإعدام بتهم واهية وملفقة. الأكيد الثابت في المشهد الانقلابي المصري هو أنه يحكم بواسطة القبضة الثلاثية الأمنية والعسكرية والإعلامية وهي ركائز يغطيها الدعم الدولي والإقليمي من خلال الاعتراف والقروض. في ليبيا لم ينجح المال الخليجي الفاسد والتدخل العسكري المصري المباشر في الانقلاب على ثورة فبراير الخالدة ونجحت القوى الثورية في المحافظة على مستوى اليقظة والجاهزية لصد كل المحاولات الانقلابية رغم الاختراق الذي حققه المعسكر الانقلابي الدولي على المنجز الثوري عبر اختراق عدد كبير من النخب الليبية. 

في تونس اتخذ المسار الانقلابي شكلا أكثر نعومة بواسطة توظيف المال السياسي وعبر تزوير إرادة الناخبين والبدء في تصفية الإرث الثوري عبر "إعلام العار" التونسي الذي مثل بحق رأس حربة الثورة المضادة في مهد الربيع. وليس إرهاب المدونين وتهديد السيادة الوطنية عبر الصفقات المشبوهة التي يبرمها المعسكر الانقلابي سواء مع البنوك الاستعمارية الدولية أو القوى الداعمة للانقلابات إلا جزءا من الضمانات التي يقدمها النظام الجديد لعرّابي الاستبداد العربي.

الثابت هو أن المسار الانقلابي قد فشل فشلا ذريعا وليس المشهد الذي نرى ونعيش اليوم إلا نتيجة لعوامل كثيرة أهمها:

أن أدوات الانقلاب القديمة لم تعد تحقق نفس الأهداف، أي أن النماذج الانقلابية العسكرية التي عرفتها المنطقة العربية خلال ما يسمى فترة الاستقلال في منتصف القرن الماضي لم تعد ممكنة اليوم لتغير السياق التاريخي والاجتماعي والثقافي عامة. فموازين القوى الدولية وتقدم منوالات العولمة وتشابك المصالح الاقتصادية والنقدية العالمية لم تعد تسمح بزعزعة الأنظمة الراعية لمصالحها بشكل فجائي بعد أن طورت هذه القوى أذرعا ناعمة للسيطرة على ثروات الشعوب وعلى مستقبل أجيالها. بناء عليه فإن النموذج المصري هو نموذج يسير إلى حتفه لا محالة، لأنه نموذج ضد حركة التاريخ ولن يسمح بتحقيق الاستقرار الاستبدادي الذي حققته الأنظمة الانقلابية القديمة، وهو شرط أساسي للحصول على الشرعية الدولية. 

أما العامل الثاني فيتمثل في الانهيار الكبير الذي عرفه حاجز الخوف عند الجماهير الشعبية بشكل عام، وهو ما يجعل الشارع متأهبا دائما لصناعة النموذج الذي حققه خلال سنة 2011 سواء في تونس أو في مصر أو في غيرها من الأمصار. العصا الأمنية أو العسكرية لم تعد قادرة اليوم على التحكم المطلق في سلوك الجماهير، ولم تعد بالسطوة التي كانت لها قبل الربيع العربي، حتى وإن خفتت هذه الحركة فإن أسباب استعادتها لا زالت قائمة على الأرض. وإن وعي الدولة العميقة بذلك هو الذي يدفعها اليوم إلى الاستثمار الأقصى في ملف الإرهاب من أجل محاولة تأسيس قاعدة جديدة لجدار الخوف عبر الاستثمار في منوالات التطرف والعنف التي هي صناعة النظام الاستبدادي نفسه. 

يختصر العامل الثالث في الوعي الجديد الذي تمخض عنه انفجار الثورات الكبير، فقد أسقطت رياح التغيير أقنعة كثيرة وكشفت أدوارا ما كان العقل العربي ليتوقعها وهو في نظرنا أعظم مكاسب الربيع التي ستبنى عليها حركات التاريخ القادمة. الوعي بهشاشة الاستبداد وبحجم الكوارث التي تسبب فيها للمنطقة ولشعوبها ولأدوارها التاريخية يشكل حلقة أساسية من حلقات التطور الفكري لمجتمعاتنا العربية، خاصة أن إعلام النظام قد نجح في تجريف هذا الوعي وفي بث كل أنواع السموم من أجل تأبيد الاستبداد وتصويره قدرا لا فكاك منه. 

لا يمكن تصور العامل الثالث دون إدراج الثورة التي حققها النظام التواصلي الجديد ممثلا في الفضاء الافتراضي من نقلة نوعية حاسمة نجحت في كسر الحصار الذي ضربه النظام القمعي العربي على المعلومة وعلى الخبر. هذا الانتشار الواسع والسريع للخبر يمثل عاملا مركزيا في بناء الوعي الجديد رغم الكتائب الافتراضية التي جندتها الدولة العميقة من أجل اختراق الوعي الافتراضي الناشئ. 

فشل المسار الانقلابي جزء أساسي من مسار الثورة العربية التي تؤكد كل المؤشرات أنها بلغت مرحلة اللاعودة، وأن الصعوبات التي تواجهها اليوم عبر مشهد الفوضى المستشرية ليس إلا مرحلة ضرورية في تاريخ كل الثورات. 
التعليقات (1)
عبد الله ميارة
الجمعة، 24-07-2015 10:03 م
سنة لله في الذين خلوا ، ولن تجد لسنة الله تبديلا ، ولن تجد لسنة الله تحويلا