قضايا وآراء

المشخصاتية والدولة المصرية

عمرو عادل
1300x600
1300x600
بدأ ظهور السينما في مصر في نهاية القرن التاسع عشر عام 1896 في الإسكندرية إلا أن تحولها كصناعة لم يبدأ إلا في بداية ثلاثينيات القرن العشرين مع ظهور أستوديوهات التصوير السينمائي.

والسينما أحد أدوات التعبير عن المجتمع كغيرها من المنتجات الفكرية؛ فهي تعبر عن قيمة أو تحاول عرض مشاكل المجتمع وتطرح الحلول بطرق متعددة؛ فهي في النهاية أحد مرايا المجتمع أو هكذا نظن.

منذ بداية صناعة السينما في مصر وهي في غالبها تحاول ترسيخ مفاهيم تنتمي إلى ما تراه الطبقة الحاكمة صوابا؛ وتزرع في العقول الأفكار والأنماط المجتمعية التي ترسخ وجودها وسيطرتها على السلطة؛ وتحاول إضافة لبنة في البناء الضخم الذي تصنعه بكل الأدوات المتاحة.

والأمثلة على ترسيخ صورا ذهنية لدى الجماهير متعددة ولا حصر لها؛ فنجد صورة الرجل الأسمر أو الأسود في كل إنتاج السينما المصرية في الثلاثينيات حتى الخمسينيات وربما حتى الآن هي صورة نمطية للخادم أو الشخص المنكسر الذي لا يأبه له أحد؛ ونجد صورة السلطة الباطشة التي يخضع لها الجميع وتنتصر قوى السلطة في النهاية دائما.

والاستثناءات النادرة التي تحاول اختراق تلك الصور النمطية أصبحت أعمالا مميزة في تاريخ السينما المصرية من شيء من الخوف الذي عرض علي "الزعيم" شخصيا ليسمح بعرضه؛ و البريء الذي لم يسلم من مقص الرقابة ليدمر نهايته الخالدة بقتل المجند الساذج لكل الخونة؛ ومرورا بالكرنك الذي كانت نهايته استسلاما لواقع مزيف عن نصر زائف تم ترسيخه أيضا بمشخصاتية السينما المصرية.

البدايات المشوهة الخارجة عن السياق المجتمعي تؤدي في النهاية إلي إنتاج منظومة لا تنتمي للمجتمع في بنيتها حتى ولو ظهرت بعض منتجاتها التي تبدو أنها تنتمي للمجتمع وتكون كالمغرد خارج السرب.

فكما نشأت مؤسسات الدولة المصرية بطريقة مشوهة واستمر هذا التشوه البنيوي ينمو مع نموها ومع الزمن حتى وصلت إلى مرحلة مفزعة من الفساد؛ حدث ذلك في كافة المحاور التي تدخلت بها الدولة ونقلت التشوه لها وأصبحت أيضا تلك المؤسسات التابعة تحمل من الفساد ما يصعب إصلاحه بشكل جزئي.

لم تكتف الطبقة الحاكمة بتدمير المؤسسات بل حاولت تجفيف كل منابع المعرفة التي يمكنها أن تعيد للشعب وعيه وكان من أهم تلك المنابع هي صناعة السينما وأهم ما في تلك الصناعة هي "النجوم".

فالنجوم هم واجهة تلك الصناعة وأصبح معيار قدرتك علي الصعود في سلم النجومية بمدى ارتباطك بالسلطة؛ والأمثلة على ذلك لا تحصى ممن رفض الدخول في فلكها ومن ولج في بحرها الثري فأصبح من رجال الحظوة.

وكانت "النجمات" هن الأكثر استخداما في عالم الدولة ومنظومة العسكر في طول عهدها لها تاريخ أقل ما يمكن وصفه أنه كان مخزيا في هذا الملف. وأدرك الجميع ولع رجال "الدولة" بنجوم السينما وأصبح مجال السينيمائيين هو أحد المجالات الكبرى للحصول عليىالمعلومات الاستخباراتية.

وتحولت السينما وغيرها من الأدوات "الفنية" إلي حقل خصب لصناعة الوعي السلطوي وانتهت إلى ملعب أمامي للسلطة كي تصدر أفكارها الملوثة التي لا تريد منها إلا ترسيخ سيطرتها على  المجتمع.
وتحول الممثلين و"الفنانين" إلى مشخصاتية؛ فقط يحاولون إرضاء النجوم الحقيقيين القابعين في الخلف يحركونهم كعرائس الماريونت.

ولشدة ارتباط رؤوس الطبقة الحاكمة بالمشخصاتية أصبحنا نجد صعوبة في التفريق بين الاثنين؛ فنجد من هم في مجال السينما يتصرفون كسياسيين ويتصدروا الواجهات ويتحدثون باسم الدولة؛ وعلى الجانب الآخر نرى رؤوس الدولة يعيشون في عالم مواز ويلعبون أدوارا مكتوبة لهم كعالم الشاشة الفضية منفصلين عن المجتمع وسط عالم من الأوهام التي يصنعوها ثم يعيشون فيها.

لا أستطيع تحديد الأسباب التي جعلت السياسيين مولعين هكذا بمشخصاتية السينما ويجعلونهم واجهتهم ومرافقيهم؛ ربما كان الولع بالسلطة ما دفع الكثير ممن يسمون أنفسهم فنانين بالارتماء في أحضان السلطه؛ إلا أن المؤكد أن المساحات بين الاثنين قاربت على الاختفاء واقتربت الدولة المصرية من أن تكون جزءا من حالة سينمائية بامتياز حتى أن أكبر الأحداث التي يعتمدون فيها علي تكوين شرعيتهم هو حدث سينمائي تمثيلي أحد أهم قادته هم مشخصاتية مصر ألا وهو احتفالية 30 يونيو البائسة.

استطاعت طبقة الفساد المسلح أن تجعل من مشخصاتية مصر رموزا للمصريين؛ واستطاعت أن تدمر تماما أي قيم يمكن أن تساعد تلك الصناعة في ترسيخها حتى ولو كانت قيما خاطئة؛ وجعلتها مجرد تابلوه ملون لا يحمل إلا صورا باهتة لإرادتهم؛ فما يحدث من اصطحاب "الفنانات" في كل مكان يذهب إليه "الساسة" ليس مجرد عمل عبثي ولكنه معبر عن ذوبان بين الاثنين وعن انتهاء قدرة الشارع على التمييز بين مشخصاتية السينما ومشخصاتية السياسة.
التعليقات (0)