كتاب عربي 21

المشهد التونسي المستلبس

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
أستعيد هنا عنوان رواية نشرتها سنة 2005 تحت عنوان "المستلبس" وهو لفظ تونسي يفيد في بعض معانيه أن يتلَبَّس جني بإنسان. وتوسع اللفظ ليشمل حالات الغضب الكاسح وحالات فقدان البوصلة والطريق فالمستلبس كائن بدوافع مختلطة لكنه بلا وجهة محددة وإني لأرى الوضع السياسي التونسي في حالة  المستلبس. دوافع التغيير فيه كثيرة لكنها لا تجد وجهتها الحاسمة.

ما الذي يميز هذه اللحظة الفاقدة لخريطة طريق فعالة؟

أرى أن هناك الكثير من التغيير الذي مس مفاعيل المرحلة ويعمل على تغييرها لكن قوى الشّد إلى الخلف والمحافظة لا تزال فعالة بما يفقد الطريق خريطته. لقد بدأت الثورة تدخل في عقول الناس فعلا لكن بشكل مضطرب. وميزة هذا المشهد في تقديري ما يلي:

1.  جهاز الأمن بعقيدة الهيمنة يستولي على المشهد

مثل جهاز الأمن في تونس عقدة الحكم الرئيسية وكان السائد دوما أن من يحكم الداخلية يحكم تونس. في مقابل من يملك الجيش يملك الدولة في الشرق. وكانت هذه القوة واضحة عبر مسار تطور بناء الدولة التونسية. لقد تضخم الجهاز وتمكن من رقاب الناس خارج القانون. وفي لحظة قوة خارقة استولى على السلطة سنة 1987. ولم تعزه الحيلة ولا النخبة التي استقوى بها فأعطته وجها مدنيا ومكنها من مواقع التحكم في ما يشبه تقاسم أدوار منظم بحكمة فرنسية.

لحظة ارتخاء قبضته على الرقاب أمكن إسقاط رأس النظام ولكن الجهاز لم يفقد قوته فأعاد التشكل ضمن شروط قانونية منحتها له الديمقراطية الناشئة التي طالما عاداها. لقد نظم نفسه في نقابات تتحول كل يوم إلى دولة داخل الدولة ولها ألسنة حِدَادٌ تسلق بها الناس عبر شبكة إعلامية موالية اصطنعتها بالترغيب والترهيب لتفرض أجندتها الخاصة على اللحظة والمسار.

تطرح النقابات الآن فرض قانون الإرهاب بصيغته التي أسقطتها الثورة لما فيها من عداء صريح لمنظومة حقوق الإنسان بأجيالها المختلفة. وهو القانون الذي يطلق يد الشرطي في تقدير الخطر بما يسمح له بفرض رؤيته على النص وعلى الواقع وبما يجعله خارج المحاسبة القانونية عند التجاوز خطأ وعمدا.

وقد شكلت الإرهاب ذريعة لدفع الإعلام ومن ثمة المجتمع إلى تغيير الأجندة الديمقراطية من تفعيل مبادئ الدستور والعدالة الانتقالية وإعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية الجمهورية الثانية عاد الجميع للتظاهر ضد إرهاب سلفي لم تقدم عليه الداخلية حجة مقنعة. بل تظهر الفبركة والإيهام فيها أكثر مما تظهر الوقائع الإرهابية الحقيقي.

والويل كل الويل لمن يشكك في الوقائع أو يرى فيها  ضعفا في السيناريو والإخراج إذ يتكفل به الإعلام ويتهمه بموالاة الإرهاب. وهذا يجعل الجميع يصمت حتى على رداءة الفبركة. كان يموت الجنود الأربعة فلا يرد منهم أحد الخبر عن القتلة ليقول  الجهاز لاحقا أن القتلة كانوا عشرين.

الداخلية تستشرس لحماية مواقعها وسلاحها وقدرتها على الحكم بقوة ما قبل ديمقراطية وكل محاولات تحويل الجهاز إلى أمن جمهوري باءت في تقديري بالفشل وسيتردى الوضع أكثر لو تمت المصادقة تحت الضغط على قانون الإرهاب بعد أن سمح للأعوان بتملك سلاحهم الشخصي خارج وقت الفراغ. وهذا أحد أسباب اضطراب المشهد خاصة إذا نظرنا إلى الأمر من جهة الأحزاب التي يفترض فيها مقاومة عودة الدكتاتورية.

2.  الأحزاب الأيديولوجية تفقد  قدرتها على الفعل

وجه آخر من اللحظة السياسية التونسية المستلبسة هي التيه الكبير الذي دخلته المجموعات الحزبية  الحاملة لأيدولوجيا يسارية وقومية خاصة التي تجمعت في الجبهة الشعبية. كل المؤشرات تؤكد الآن (على أمل تغيير معطيات لاحقا) أن الجبهة خرجت من المشهد رغم أنها صارت حزبا برلمانيا.

وسبب ذلك في تقديري هي قراءة  مغتربة للواقع التونسي لم يلتقط اليسار في الجبهة (وهي الأغلبية) اللحظة الفارقة من أن المجتمع التونسي لم يعد يقبل باستئصال الإسلاميين من المشهد السياسي وهو يتعامل معهم كمكون أساسي لا محبة أو إيمانا بطرحهم بل تسليما بوجودهم خاصة وأن غيابهم لمدة ربع قرن (أو تغييبهم وهم الأصح) لم ينتج الديمقراطية والتنمية بل أنتج أشرس أنواع الدكتاتورية.

فلما سمح للمجتمع بالتقرير دون الداخلية. قبل بهذا المكون وأعطاه حجمه لكن يسار الجبهة لم يضع في أجندته غير برنامج واحد مواصلة الاستئصال. فانقلب السحر على الساحر إنها عُمْلَة لم تعد رائجة وخدمة لم يعد يطلبها المناولون القدامى من أركان النظام وأنصاره في الخارج (فرنسا بالتحديد).

هذه القراءة الخاطئة للحظة حرمت الساحة من خطاب يساري معتدل وبناء وله قدرة احتجاجية عالية ومنظمة لا يملكها غيره. وهذا الغياب سيمكن  لقوى كثيرة من امتلاك المشهد لكن بدون مكون يساري. بما يجعل الغموض يلف مستقبل اليسار عامة ومستقبل المجتمع برمته. والفرحون بغياب اليسار لم يروا التعدد بل رأوا الانسجام في اليمين حيث يموت الاحتجاج أبدا وتستأسد الشرطة.

3.  الإسلاميون يأتون المجتمع من أسفله

إحدى أهم التكتيكات السياسية هي قبول حزب النهضة بدخول حكومة على غير اتفاق برامجي حقيقي وإنما تبدو هجينة وغريبة. فإذا نظرنا إلى الأمر من وجهة نظر الحملة الانتخابية وكيف تمت على أساس العداء المطلق بين مكوني الحكومة الحالة. (النداء والنهضة) فلن يمكننا توقع تحالف سياسي بينهما. لكن التحالف قائم الآن دون توازن لكنه فعال. والسؤال هو احتمالات بقائه إلى حدود المدة الافتراضية للحكومة (خمس سنوات) والسؤال الأهم: ماذا يفعل كل حزب تحت غطاء دخوله للحكومة؟

يبدو أن لكل أجندته الخاصة وما وجوده في الحكومة إلا ذريعة لتمويه ما يفعل خارجها. يبدو النداء حزبا برجوازيا يعمل على حماة طبقته من الاضطرابات الاجتماعية بتوليف الحزب الأقدر على إثارتها في الشارع. فمادامت النهضة في الحكم فالشارع نائم أو مُنَوَّمٌ. وهذه مصلحة رأس المال.

وهو غير معني بالمرة بمطالب اجتماعية أو تأسيس ديمقراطية حقيقية وضعتها الثورة على الطاولة مثل إصلاح التعليم فقد وضع للمفارقة عليه رجلا هو الأعجز من بين الأعجز عن الفعل في الساحة التعليمية.

لا أهمية عند هذا الحزب لأي مطلب اجتماعي أو تأسيس ثقافي أو دستوري حكمي لذلك سيعمل على الإبقاء على الوضع كما هو عليه وهذا يخدم في جانب كبير جهاز الأمن المتحكم إذ سيمكنه في لحظة ما تسويق نفسه من جديد للبرجوازية. فيعود إلى دوره الذي يعرفه حماية فئات دون أخرى (رسمة ماركسية  كلاسيكية لكنها فعالة).

أما حزب النهضة فيبدو مشغولا بتركيز نفسه في الشارع. وبين أنصاره وقد اجتنب بدخوله الحكومة الحملة  الإعلامية الفجة المسلطة عليه. ونعتقد أنه يحتمي بحكومة لا هم له فيها من الداخل لكنه يستعملها ليستعد بها للمراحل القادمة كالانتخابات البلدية والمحلية ووجودوه في البرلمان ومساندته للحكومة ستمكنه من فرض قانون البلديات الذي سيكون باب تغيير حقيقي في تونس. ومجال صراع رهيب سيكون لجهاز الأمن دور فعال في تعطيله. لأنه سيؤدي بالضرورة إلى لا مركزية القرار في مسائل أمنية مهمة. بما يفقد الرأس المتحكم في الأمن قدرته على الضغط والتوجيه.

هنا يظهر الإسلاميون أذكياء ومتمرسون في أخذ المجتمع من أسفل. لكن بدون مشروع ولا ملامح مشروع غير الاستيلاء والتحكم. لقد انسحبوا  تكتيكيا ليعودوا من بعيد بصفوف مختلفة. وبما يفتتح على احتمالات استيلاء على المجتمع لإعادة إنتاج الحزب الواحد القوي المتحكم وهذا  فيه خطر كبير على الديمقراطية. لكن هل يحق للضعفاء أن يقولوا للقوي لا تكن قويا لتسمح لنا بالضعف. هنا نفتح باب السؤال عن غياب مشروع اجتماعي حقيقي. عمن يختلفون عن حزبي السلطة الآن (النداء مع النهضة).

4.  المشروع الاجتماعي لم يتشكل بعد 

ليس هناك مشروع تنظيمي وسياسي ينهي وضع المجتمع المستلبس. بل هناك ذرات حزبية تتكلم كلها في المشروع الاجتماعي وتزعم نشره بين الناس ولكن. هؤلاء جميعهم ليسوا إلا ذرات هائمة في فضاء مفتوح تهب عليه رياح قوية. نعم توجد قوة شبابية كبيرة متحمسة لتحقيق أهداف الثورة وهي على يقين أن ليس من السلطة بقادر عليها لكن هذه الهيولي تحتاج من ينظمها.

وخاصة وهذا الأهم تحتاج إلى من لا يشتتها بين الحزيبات الصغيرة. تحتاج من يوحدها حول فكرة باتت معروفة وواضحة ولكن بلا تنظيم قوي وفعال. مشروع تحقيق أهداف الثورة الاجتماعية عبر تفعيل الدستور.

هنا يمكن أن يخرج الوضع من حالات اللّبس والحيرة. ويجد رأسا قياديا واعيا بالمرحلة يخرج من برنامج الاستئصال الجبهاوي المستنفذ الصلاحية. ويخرج من حماية مصالح فئات اجتماعية دون غيرها (النداء) ويخرج من فكرة الاستيلاء الاستحواذي على المجتمع (النهضة).

ويتصدي في الشارع بسبل ديمقراطية لتغول جهاز الأمن العائد لوضع البلد تحت كلكله. في غياب ذلك سيستمر الوضع "المستلبس". حتى يقاوم المجتمع جنونه الداخلية المسلحة برغبة في إبقاء الوضع على ما هو عليه لأنه ليس بالإمكان أفضل مما كان. 
التعليقات (0)