كتاب عربي 21

الجماعة الوطنية في خطر!!

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
ظل مشروع الجماعة الوطنية من أهم المشروعات الاستراتيجية في بناء الوطن، وظل ذلك المشروع على قمة أولويات الجماعة الثقافية المصرية، والتي أكدت أن هذه القضية لا يجوز بأي حال من الأحوال التلاعب بها، أو جعلها موضع مقايضات أو مساومات، أو دخولها على خط التسييس من جانب السلطات الحاكمة أو السلطات الأمنية، هذا المشروع الذي حفر طريقه في الذاكرة الحضارية للمصريين في إطار جامع بين المسلمين والمسيحيين، وفي تاريخنا المعاصر تعبر الأعمال والأفكار التي حملها اثنان من المستشارين ليقدما رؤية رصينة بما أسدياه لمفهوم الجماعة الوطنية، ومناط لحمتها وعوامل تماسكها، وقدما أفقا مشتركا يؤكد على حقيقة العيش الواحد المشترك ألا وهما المستشار الحكيم البشري "طارق البشري"، والمستشار وليم سليمان قلادة، إذ تزاملا في مجلس الدولة واجتمعا على هذا المشروع والدعوة إليه بما مثلاه من قيم حاكمة تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل لتمكن هذا المشروع في بناء لُحمة المجتمع وقوة الدولة.

كذلك كان من أهم أولويات العمل الذي يتعلق بالإدارة البحثية والدورات، أن جعلنا من "برنامج حوار الحضارات" محضنا لأنشطة الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي الذي أخرج وثيقة تعبر عن منظومة القيم الحاكمة لهذا المسار وتمكينه، وبما اعتبره الجميع أن مصر في تجربتها الثقافية والمجتمعية الفريدة إنما تشكل نموذجا يمكن أن يحتذى في كثير من الخبرات العربية وبتعبير أحدهم "إن مصر تمثل الميزان في هذه المسألة"، ومن هنا كان المشروع الذي يتعلق بإدارة الاختلاف والتعدد، بما فيه الاختلاف الديني من أهم مساحات الفعل المجتمعي والثقافي والبحثي للبرنامج، ثم مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة. 

لم تكن تلك هي المحطة الوحيدة التي جعلت من ذلك المشروع أحد أبرز اهتمامات هذه المدرسة وحرص تلامذة كل من المستشارين أن يؤسسوا لمدرسة وطنية تحمل هم مشروع الجماعة الوطنية، التقيا على هذا، وكرسا كل ما يتعلق بتمكينه وحذروا من كل ما ينال منه فيضر بالمجتمع والدولة، كانت المحطة الفارقة التي شاءت الظروف بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير أن أقوم بعمل ممنهج ومنظم في شكل "لجنة العدالة والمساواة" والتي وافق رئيس الوزراء الأسبق آنذاك (د. عصام شرف) على إنشائها بعد أحداث ماسبيرو، كانت هذه اللجنة منتدى لاستعراض كل أشكال التهميش والتمييز في المجتمع، وشكلت حوارا مفتوحا حول تلك المشكلات بتسامح منقطع النظير، واتفق الجميع على أن يجعلوا من لحظة الثورة استثمارا لوضع هذه الملفات في نصابها خاصة بعد أن بدا لكل ذي عينين أن تحويل ذلك الملف إلى ملف أمني أضر به، بل طالته أيادي العبث حتى يحقق كل سلطان طاغية تمكينا لسياسات استبداده وشبكة فساده.

حققت هذه اللجنة من خلال هؤلاء الذين حملوا هم هذا الملف نموذجا فريدا في التعامل مع هذه القضية التي تتعلق بالتوترات الدينية والطائفية باعتبارها قضية مجتمعية تنموية مدنية وليست قضية أمنية أو دينية، بدا كل ذلك إرهاصا في ذلك المشروع يحاول ترجمة كل ذلك على أرض الواقع يتعرف على كل الإشكالات التي تتعلق بهذا الملف في إطار تفهم متبادل يقوم على قاعدة تمهيد السبل والمسالك للتمكين لعيش مشترك واحد، وابتكرت اللجنة من الأدوات التي تستشرف تعاملا لهذا الأفق المتسع وبهذا التسامح الواجب من دون مواربة أو التفاف، وجعل هذا الملف ملفا مدنيا تنمويا بحق، وفي إطار ابتكار آليات للانذار المبكر، حملها الشباب بكل تكويناته وتنوعاته ليجعل من هذه اللجنة عملا مستمرا لا يتعامل مع الحوادث حينما تقع ولكن يستشعر ضرورة المسئولية حول منع هذه الحوادث وقائيا وسد كل المداخل التي جعلت من مؤسسات أمنية تتلاعب بذلك الملف الذي وصل إلى أقصى مداه في حادثة "كنيسة القديسين" قبل أسابيع قليلة من قيام ثورة يناير.

وحينما كنت عضوا في الهيئة الاستشارية للرئيس المدني المنتخب وضعت ثلاث مهام، كان على رأسها استئناف نشاط يجب أن يكون حول تفعيل هذه اللجنة خاصة بعد صدور قرار من رئيس الوزراء قبيل استقالته بقليل، وأكدت أن هذه الآلية يجب أن تعمل على الفور لاستكمال ما قامت به من عمل تؤكد به على ضرورات التعامل مع هذا المشروع الذي يتعلق بلحمة الجماعة الوطنية وتماسكها، ورغم أن البعض قد رأى أنه في الإمكان تأجيل هذا الموضوع إلا أن الإصرار كان كبيرا وحازما، ولكن الأمر قد أضر ضررا بالغا في بيئة الاستقطاب، وفيروسه الذي تمكن من كافة القوى، وصار هذا الموضوع ضمن مزايدات هذه القوى، مما أَضر بهذا المشروع ضررا بالغا. 

إلا أن الطامة الكبرى تمثلت في حقيقة الأمر في مشهد انقلاب عسكري استدعى غطاء شعبيا وشكله بأدواته وأذرعه الإعلامية والأمنية، وأصحاب المصالح من النظام البائد ليكونوا فريقا من الثورة المضادة، وبدت الأمور شديدة التعقيد، ورغم كل هذا كان من المهم أن نؤكد أن هذا الملف يجب أن يبتعد عن كل يد عابثة أو كل موقف مسيس، فالأمر أمر جد لا هزل لجعل هذا الملف مدخلا من مداخل إنهاء حالة الاستقطاب لا تفاقمه، واستسلم هؤلاء إلى بيئة من صناعة الكراهية وإلى لغة ومواقف تنال من السلم الأهلي والمجتمعي وتقوض أسس الجماعة الوطنية، وربما تسلم الجميع إلى حافة اقتتال أهلي بل صاروا جزءا من كل ذلك.

كان المشهد الانقلابي أخطر المشاهد التي تلاعبت بهذا الملف خاصة أنه ادعى مواجهته لإرهاب محتمل تعين في مواجهة "الإسلام السياسي"، وتزامن كل ذلك مع اختفاء قيادة كنسية طالها الموت أعقبها انتخابات أفضت إلى صعود قيادة جديدة، وفي مشهد الانقلاب فى 3/ 7 كان من المهم أن يتحاشى اثنان الظهور ضمن هذا المشهد الانقلابي ألا وهما شيخ الأزهر ورأس الكنيسة، إلا أنهما آثرا أن يدخلا مجال التسيس من أوسع باب، وقدما كل فرصة لكل من أرد أن يسيس هذا الملف، وبدا الأمر خطيرا حينما نشهد كلاما في السياسة وشروطا توضع لمصالحة وقبول الإخوان فى المجتمع، والحديث عن عدد الأقباط، وكأن رأس الكنيسة أراد أن يخوض كل معارك الكنيسة دفعة واحدة مستغلا هذا المناخ الانقلابي من جهة والاستقطابي من جهة أخرى، في حالة مواتية برزت تلك الأخطاء الفادحة بل الخطايا الآثمة التي تمارس من قبل مشيخة الأزهر ورأس الكنيسة على حد سواء ضمن هذه الحالة الانقلابية.
إلا أن أخطر من ذلك تلك المدرسة التي حملت مشروع الجماعة الوطنية التى تفرقت بها السبل وانحاز بعض أفرادها لمشهد انقلابي مقيت وبدأ كثير منهم يدخل سوق المزايدات فهذا يعلن أن المصالحة مع الإخوان خيانة عظمى، ويعلن في ذات الوقت -وكأنه يمسك بمفاتيح الثورات- أنه ليس هناك ثورة ثالثة، بدا أفراد هذه المدرسة ينالون من كل أسس وقيم تتعلق ببناء الجماعة الوطنية، ودخلوا من باب مجال التسيس واسعا في هذا الملف لينال من مقولة وواقع "العيش الواحد المشترك"، وشارك للأسف كثير من هؤلاء في تشييد مصانع الخراب وصناعة الكراهية، وكأن اللحظة الإنقلابية سيطرت عليهم ظانين أنها ستدوم، متوهمين أن من يحمي مسيحيى مصر سيكونون في كنف السلطة وركابها، فما بالك أن يكونوا في كنف سلطة الاستبداد وحكم العسكر.

ساء المشهد وتدهور وكانت أحاديث وكلمات هنا وهناك تصدر عن رأس الكنيسة، على نحو غير مسؤول، يضع في كلماته قنابل موقوتة مقللا من شأن أن يكون للأقباط ما يقرب من الثلاثين عضوا في البرلمان القادم، ويفرض الشروط لإجراء مصالحات مجتمعية أو سياسية، وصارت المسألة لديه ليست فقط بأن تمارس مؤسسة دينية بعض الأدوار السياسية، حتى أننا لم نسمعه إلا ويتحدث في السياسة، بدا كل ذلك الوضع خطرا على مشروع الجماعة الوطنية، خاصة حينما نرى أن خطوطا حمراء قد تجاوزها البعض خروجا على قواعد راسخة غير مكتوبة ضمن هذا المشروع، وهم يعرفون أن العيش الواحد المشترك إنما يكون في حمى المجتمع وليس ضمن تلاعبات ومقايضات سلطة مستبدة بهذا الملف، لتجتذب مؤيدين أو تصنع صورة وتزرع كراهية بإدعاء مواجهة إرهاب محتمل، شارك كل هؤلاء في صناعة خطر يحيق بالرؤية الاستراتيجية لهذا المشروع لتكون الجماعة الوطنية في خطر حقيقي، فمن يواجه ذلك الخطر؟!.
التعليقات (0)