مقالات مختارة

معركة سلوان

ميرون رابوبورت
1300x600
1300x600
كتب ميرون رابوبورت: قبل ثلاثة أسابيع، وبعد أيام معدودة من استيلاء المستوطنين اليهود على 25 شقة جديدة في حي سلوان الفلسطيني جنوب المسجد الأقصى في القدس، ظهر إعلان ضخم في الصفحة الأولى لصحيفة هآرتز يهنئ النزلاء الجدد على "مجهودهم الصهيوني".
 
ومضى الإعلان يقول: "إن التحدي الذي يجمعنا هو تعزيز الوجود اليهودي في القدس. إنكم تشعروننا بالفخار بما قمتم به من عمل استيطاني".
 
لم يكن محتوى الإعلان مفاجئاً على اعتبار أنه برعاية "إيلاد"، وهي منظمة إسرائيلية تعمل منذ سنوات لصالح تهويد سلوان أو "مدينة داود" كما يفضلون تسميتها.
 
إلا أن المفاجئ هو هوية أولئك الذين وقعوا على الإعلان: إيلي ويزيل، الفائز بجائزة نوبل، وشلومو آهارونيشكي، رئيس الشرطة الإسرائيلية السابق، والجنرال المتقاعد آموس يادلين، رئيس الاستخبارات السابق في قوات الدفاع الإسرائيلية والمعلق النافذ حالياً وربما المنافس مستقبلاً على رئاسة حزب العمل.
 
وهؤلاء باختصار ليسوا زمرة من حمقى اليمين، وإنما لحم وعظم المؤسسة الإسرائيلية.
 
عندما بدأ الاستيطان اليهودي في سلوان قبل أكثر من عشرين عاماً كان الوضع مختلفاً تماماً. فمنذ احتلالها للقدس الشرقية عام 1967 صادرت إسرائيل مساحات واسعة من الأرض من أصحابها الفلسطينيين من أجل بناء أحياء كبيرة جديدة لليهود فقط بينما تعمدت الامتناع عن إدماج اليهود في الأحياء الفلسطينية ذات الكثافة السكانية.
 
كان مشروع الاستيطان في سلوان، تلك القرية التي غدت واحدة من أفقر أحياء القدس الشرقية، قد حصل على دعم ورعاية وزير الإسكان آنذاك آرييل شارون، إلا أن الخطة بقيت خارج إطار الاتجاه العام للسياسة الإسرائيلية. احتج حينها حزب العمل على هذا التحرك وأمرت الشرطة المستوطنين بإخلاء البيوت التي اقتحموها انطلاقاً من مخاوف على الأمن العام. إلا أن المستوطنين ما لبثوا بعد أسابيع قليلة أن سمح لهم بالعودة.
 
تجذب سلوان مؤيدي الاستيطان الإسرائيلي لسببين. أما الأول فهو عاطفي وديني. فالجزء الشمالي من الحي، وهو المحاذي للمسجد الأقصى/ جبل الهيكل، فيجلس على موقع أثري اشتهر باسم "مدينة داود". يذكر أن ما يزيد عن مائة عام من الحفريات الدائمة تقريباً لم تكشف عن دليل غير قابل للدحض بوجود الملك داورد على التلة. إلا أن ذلك لم يثن المستوطنين وأتباعهم عن اعتبار هذه المنطقة المكان الذي تأسست فيه السيادة اليهودية قبل ثلاثة آلاف عام.
 
وأما السبب الثاني فله علاقة بالسياسة. فقد دخلت طلائع المستوطنين إلى سلوان في أكتوبر 1991 في نفس الوقت الذي افتتح فيه مؤتمر مدريد، اللقاء الأول من نوعه الذي تجبر فيه إسرائيل على الجلوس وجهاً لوجه مع وفد فلسطيني.
 
كان الهدف المفترض من الاستيطان داخل الأحياء المأهولة في قلب الحوض المقدس هو ضمان ألا تقسم القدس إلى جزء فلسطيني وآخر إسرائيلي، وإذا لم يكن بد من تقسيمها فلا أقل من ضمان أن تبقى المدينة القديمة في أيدي الإسرائيليين.
 
ولعل حقيقة أن سلوان كانت مركز الانتفاضة الفلسطينية الأولى في القدس، والتي اندلعت في أواخر عام 1987، هو الذي ساعد في تحويلها إلى هدف لمزيد من التضييق الإسرائيلي.
 
بتشكيل حكومة إسحق رابين عام 1992 وبإبرام اتفاقية أوسلو فيما بعد، بات تقسيم القدس بين إسرائيل والدولة الفلسطينية القادمة خياراً أكثر واقعية وحشر مستوطنو سلوان في زاوية سياسية ضيقة.
 
وقد استمروا في محاولة شراء البيوت والشقق، وفي استثمار ملايين الدولارات في صفقات مشبوهة، إلا أن نجاحاتهم ظلت محدودة.
 
ثم، وفي نهاية تسعينيات القرن الماضي، خطرت ببال المستوطنين بقيادة منظمة إيلاد فكرة أفضل، فبدلاً من شن معركة محبطة من بيت إلى بيت، الأمر الذي بدوا بسببه متطرفين يمينيين، قرروا تحويل قضية مدينة داود/ سلوان إلى قضية وطنية يمكن أن يتشكل حولها إجماع واسع.
 
فكرة إيلاد هي استغلال الارتباط اليهودي التاريخي بمدينة داود لأغراض سياسية تخدمها هي. وقد استلمت إدارة الحديقة الوطنية لمدينة داود (وهي جزء من الحديقة الوطنية لأسوار القدس)، والتي تجلس على الموقع الأثري في الجزء الشمالي من سلوان، وذلك من خلال صفقات سرية أبرمتها مع السلطات الحكومية. ثم بدأت بعد ذلك في استثمار عشرات الملايين من الدولارات في الحفريات وفي المؤثرات الصوتية بالغة التعقيد، وفي أنفاق الخروج المحفورة تحت بيوت الفلسطينيين في سلوان.
 
ونتيجة لذلك أصبحت الحديقة الوطنية لمدينة داود، تحت الإدارة المباشرة للمستوطنين، واحدة من أكثر المواقع المطروقة في إسرائيل يؤمها كل عام مئات الآلاف من الزوار.
 
كما حقق التنقيب عن الآثار هدفاً أكبر بكثير، فمن خلال سيطرتهم على الحديقة الوطنية، وسع المستوطنون بسرعة خاطفة دائرة نفوذهم في سلوان، وبدأ الفلسطينيون الذين يعيشون هناك يعانون من ضغوط متصاعدة، إذ باتت حركتهم مقيدة، وصاروا يكتوون بنار حراس الأمن الذين أحالوا حياتهم إلى جحيم، وهم حراس مستأجرون بشكل شخصي برعاية حكومية ولكن بتحكم كامل من المستوطنين.
 
والأدهى من ذلك والأمر أن تحويل مدينة داود/ سلوان إلى موقع "تراث وطني" يهودي أضفى الشرعية على نشاطات المستوطنين هناك بشكل لم يكن ممكناً من قبل، فقد سمح ذلك لهم باختراق جهاز دولة إسرائيل. ولا أدل على ذلك من أن الرئيس الحالي لسلطة الحدائق الوطنية، والمسؤولة عن حديقة مدينة داود، كان عضو مجلس إدارة في منظمة إيلاد. أما الرئيس الجديد لمجلس الآثار فقد شارك بنفسه في الحفريات في سلوان، كما أن المدير العام لوزارة السياحة واحد من كبار أعضاء منظمة إيلاد.
 
يرى كثير من الإسرائيليين، بما في ذلك بعض من هم في الوسط ويسار الوسط، أن سلوان باتت الآن جاهزة لتصبح جزءاً من القدس الإسرائيلية إذا ومتى ما وقع الفصل، ولعل قائمة الأسماء المحترمة الموقعة على إعلان إيلاد هي جزء من هذا التغيير.
 
في نفس الوقت لم يتخل المستوطنون في سلوان عن خططهم التوسعية، فقد جددوا جهودهم، يشجعهم في ذلك تنامي شرعيتهم المكتسبة مؤخراً، لشراء بيوت جديدة من ملاكها الفلسطينيين. ولكن يصعب معرفة كم من هذه الصفقات تم إبرامها بشكل كامل.
 
من المتعارف عليه بين الفلسطينيين تحريم بيع العقارات لليهود تحريماً قطعياً، كما أن السلطة الفلسطينية تعارض ذلك بشدة. إلا أن رام الله بعيدة جداً (من حيث النفوذ وليس من حيث عدد الكيلومترات)، وخاصة بعد إنشاء جدار العزل حول القدس الشرقية، كما أن بعض الفلسطينيين يستسلمون للضغوط وللإغراءات المالية الكبيرة التي تحملهم على الموافقة على البيع.
 
يتفاخر النشطاء اليهود في القدس الشرقية بأنهم اشتروا مئات الشقق من الفلسطينيين وبأنهم فقط ينتظرون اللحظة المناسبة للانتقال إليها. لا يعلم أحد مدى صدقية مثل هذه الادعاءات، إلا أنه من الواضح أن المستوطنين قرروا في مطلع أكتوبر الانتقال إلى الشقق التي كانوا قد اشتروها من قبل.
 
ما من شك في أن هذا الاستيلاء على العقارات قريباً جداً من أسوار الأقصى يرتبط بالضغوط المتصاعدة التي تمارسها المنظمة اليهودية اليمينية المتطرفة لتغيير الوضع القائم على جبل الهيكل.
 
لا توجد ثمة صلة مباشرة بين الحركات التي تعمل من أجل إعادة بناء الهيكل الثالث ومنظمات المستوطنين في سلوان، إلا أن ثمة تطابق بين ما يحفز هؤلاء وأولئك، ألا وهو تأكيد السيادة الإسرائيلية على قلب مدينة القدس في الوقت الذي تثار فيه الشكوك حول هذه السيادة سواء من قبل جزء من المجتمع الدولي أو من قبل الفلسطينيين المقدسيين الذين يعيشون انتفاضة مصغرة منذ ما يقرب من أربعة شهور.
 
بات اليوم ثمة إجماع واسع في المجتمع الإسرائيلي بشأن مستقبل القدس، وذلك جزئياً بفضل الجهود التي يبذلها المستوطنون لتطبيع السيطرة الإسرائيلية على القدس الشرقية. ولم يكن من باب المصادفة أن يصبح "الدفاع عن القدس" واحداً من العناوين الأساسية لانتقال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى اليمين، كما أثبته خطابه أمام الكنيست مطلع الأسبوع الماضي.
 
من وجهة النظر هذه، كان للتحركات جميعها على جبل الهيكل، أو الحرم الشريف كما هو معروف لدى الفلسطينيين، وفي سلوان، تأثير سياسي مباشر. ولعل إعلان أوري آرييل، الوزير المخضرم من حزب البيت اليهودي، عن نيته الانتقال للعيش في سلوان هو جزء من نفس هذا التوجه.
 
والثمن هو تصاعد التوترات في القدس إلى درجة بالغة الخطورة، تعتقد إسرائيل رغم ذلك أنها قادرة على احتوائها. ولكن، قد تثبت الأيام القادمة أنها مخطئة.
 
ميرون رابوبورت – صحفي وكاتب إسرائيلي، حائز على جائزة نابولي للصحافة عن تحقيق أجراه حول سرقة أشجار الزيتون من ملاكها الفلسطينيين. عمل سابقاً نائباً لرئيس قسم الأخبار في صحيفة هآرتز، وهو الآن صحفي مستقل.


(ميدل إيست آي)
التعليقات (0)