كتاب عربي 21

ملاحظات على سؤال الكلفة في الحالة الفلسطينية

ساري عرابي
1300x600
1300x600
(1)
يتجدد سؤال الكلفة والجدوى فلسطينيًا؛ كلما تجددت المقاومة، أو اشتبكت مع العدو، ومع أن هذا السؤال ضروري لتطوير المقاومة وتصحيح أخطائها ومراكمة إنجازاتها، وبالتالي فإن المقاومين أولى الناس به، فإنه يصدر أيضًا عن أطراف ترفض المقاومة من حيث المبدأ، أو من أطراف لا يبدو واضحًا موقفها من المقاومة على ضوء المقدمات التي تطرحها حتى وإن أكدت أن سؤالها لا يمس مبدأ المقاومة وإنما يهدف إلى تطويرها بهدف مراكمة إنجازاتها وتحقيق قدر معقول من التوازن بين الأثمان والنتائج، والنقاش سينصرف إلى هذا الطرف الأخير.

المشكلة أساسًا مع هذا الطرف في المقدمات التي لا تخدم الهدف المعلن، أو لا تقود إلى هذا الهدف كنتيجة أكيدة، بما يجعل المقولة تجاه المقاومة غامضة، أو تفتقر للتحديد والوضوح والعملية، وبما يجعل النتيجة الفعلية لهذه المقدمات تعطيل المقاومة لا ذلك المهدف المعلن عن تطويرها وتعزيز نجاعتها وخلق توازن بين آثارها على الفلسطينيين وآثارها على العدو.

(2)
تقوم هذه المقدمات بشكل أساسي على إحصاء الضحايا الفلسطينيين من شهداء وأسرى وجرحى إضافة إلى الأضرار التي تمس حياة المواطنين العاديين بما في ذلك تدمير البنية التحتية لعموم الفلسطينيين، أو الأضرار التي تمس بنية المقاومة وتؤدي إلى تفكيكها أو ضعفها، في مقابل الأضرار التي أوقعتها المقاومة في العدو المحتل، والنتيجة الطبيعية لهذا الإحصاء المقارن هو أن الكلفة الفلسطينية أعلى بكثير من الأضرار التي توقعها المقاومة في العدو.

وتشير هذه المقدمات عادة إلى أن السبب في هذه الكلفة هو العمل المسلح، والذي يؤدي إلى استنفاد المقاومة قدراتها، وإنهاك الشعب، وافقاد هذه المقاومة قدرتها على الاستمرار لاستنزاف العدو، متوسلة بأمثلة أو حوادث تبع فيها أعمال المقاومة ردود فعل قاسية وواسعة من طرف العدو أفضت إلى اختلال واسع ما بين الفعل المقاوم والرد الصهيوني، وبعض هذه الأمثلة التي تتوسل بها هذه المقدمات محدود وبسيط ما يعني أن ترشيد المقاومة، أو تصحيح أخطائها، لا فائدة منه طالما أن أي عمل من أعمالها مهما كان بسيطًا ومحسوبًا من المحتمل أن يؤدي إلى فعل انتقامي واسع ومدمر، وبالتالي فالنتيجة لهذه المقدمات هو وقف المقاومة لا تطويرها، ولذلك فإن هذه المقدمات تقترح نموذج الانتفاضة الأولى بديلاً، وهو ما ينطوي على قدر من التناقض والارتباك كما سيجري بيانه لاحقًا.

ولأن العمل العسكري هو عمل نخبوي تقوم عليه الفصائل، كما ترى هذه المقدمات، فإن هذه الفصائل تتحمل المسؤولية عن "فشل المقاومة"، والأكلاف الباهظة التي ترتبها على الشعب جراء افتقادها القدرة على إدارة مقاومة مجدية ومحسوبة وقادرة على الاستمرار مع تجنيب الشعب قدر الإمكان الآثار العكسية لهذه المقاومة، أي تجنيب الشعب ردود فعل العدو!

بطبيعة الحال فإن نقاش موضوعة المقاومة لا ينبغي أن يتوقف على الموازنة بين أضرارها على العدو و"أضرارها على الشعب"، ولا على الإنجازات التي تسهل معاينتها سياسيًا وميدانيًا على الأرض، وإنما يجب أن يتأسس النقاش على الهدف من وجود مقاومة فلسطينية في حدود الظرف الموضوعي الفلسطيني وما يحتمله من آفاق وممكنات، ومن ثم تحديد معايير النجاح والفشل التي تناسب هذا الهدف كما تناسب الظروف الموضوعية التي تخص الحالة الفلسطينية.

ومع ذلك سنتجاوز الآن هذا الجانب التأسيسي لمناقشة بعض هذه المقدمات بصورة مباشرة.

(3)
تجعل هذه المقدمات، حتى وإن لم تقصد، جرائم العدو نتيجة لأفعال المقاومة، فهذه الكلفة الباهظة سببها أفعال المقاومة، ما يلغي أصل القضية وهو وقوع الاعتداء الأصلي، أي الاحتلال، وما يلغي طبيعة الاحتلال التي تستوجب هكذا جرائم من طرفه، وما يلغي النوازع العدوانية لهذا العدو، وبالتالي فهو تصور قاصر لأن وقف المقاومة لن يوقف جرائم العدو، فضلاً عن كون جرائم العدو ليست مترتبة بالضرورة على أفعال المقاومة، بل إنها كثيرًا ما تكون سابقة على أفعال المقاومة، وبعضها مستمر وثابت ولا يتعلق بتطورات الأحداث الميدانية، تمامًا كما هو شأن الاستعمار عمومًا.

وعلى أية حال فإن هذا المنطق سيأسرنا في جحيم حلقة مفرغة حتى لا يترك لنا خلاصًا إلا بترك المقاومة، فإذا كان المعيار هو الكلفة الباهظة، فإنه لا سبيل لتجنب هذه الكلفة إلا بترك المقاومة المسلحة، إذ لا يتسامح العدو مع أفعال مقاومة مسلحة دون غيرها، فالعمل الصغير والمحدود يساوي عنده العمل الكبير والواسع، لا فرق، فلا يمكن أن يشرعن العدو عملاً مقاومًا مسلحًا ضده، فهذا محال عقلاً وواقعًا، فإذا كانت الاحتمالات متسعة إلى هذا الحدّ فليس من السهل تقدير رد فعل العدو على عمل مقاوم حتى وإن كان صغيرًا ومحدودًا، وإذا كان الأمر كذلك فإن الحل الوحيد الممكن هو وقف المقاومة المسلحة!

ولن تكون المقاومة الشعبية "السلمية" بديلاً أفضل لتجنب الكلفة الباهظة، فهذه المقاومة العزلاء في حال اتسمت بالسعة والشمول وعمت مناطق الوطن كلها، فإنها تستدعي أكلافًا باهظة أيضًا لا تقل عن المقاومة المسلحة، وهي بالضرورة لن تخلق توازنًا بين آثارها على العدو وآثارها على الشعب، فهي في النهاية عزلاء في مواجهة آلة قتل ودمار مدججة، بمعنى حتى وإن لم تقصد إيقاع أضرار بشرية في العدو وإنما تسجيل نقاط سياسية عليه، فإنها لن تحول دون الأكلاف الباهظة ولن تمنع العدو من ارتكاب جرائمه، وهذه حقائق مسجلة في الانتفاضة الأولى، وفي بدايات الانتفاضة الثانية التي كان يحصد فيها العدو عشرات العزل على الحواجز، كما أن أكثر الشهداء الذين قتلهم العدو هذه الأيام ارتقوا في مواجهات شعبية عفوية أو نتيجة قتل عشوائي أو متعمد ولكنه ليس مرتبطًا بأعمال مقاومة سابقة عليه.

فإذا كانت الكلفة هي المعيار الحاسم والنهائي، فإن التوسل بالانتفاضة الأولى لا معنى له، فإن لم تكن الكلفة هي العامل الحاسم والنهائي، فإن النقاش حينها سيكون أجدى وأرحب، إذ لا يمكن أن نرتكز إلى سبب لا يمكن علاجه في البدائل المطروحة، خاصة وأن الكلفة الباهظة التي يدفعها الشعب المحتل هي السمة التي طبعت التجربة الإنسانية مع الاستعمار، ولن تكون تجربة الشعب الفلسطيني مختلفة إلا بأنها أكثر تعقيدًا وانفتاحًا على احتمالات البطش بسبب الطبيعة الوجودية لهذا الاستعمار.

كما أن الهبات الشعبية التي من هذا النوع لا تأتي بقرار فصائلي، وهي متعلقة بعدد كبير من العوامل يفوق قدرة الفصائل، وإلى حين أن تأتي هذه الهبة، فما العمل؟ وإذا كانت الفصائل عاجزة عن دفع الشعب لهبة شعبية عامة، فهل العيب في الفصائل وحدها؟ وهل الشعب مقدس متعالي منفصل عن هذه الفصائل؟ وهل هذه الفصائل متساوية في العجز والإثم؟ وهل يمكن إسقاط الظرف الموضوعي والاكتفاء بلوم الفصائل؟

وهل يمكن للفصائل أن تمنع فلسطينيًا من القيام بما يراه واجبه وبما يخالف حساباتها، حتى لو كان منتميًا لها؟ وهل عليها أن تتبرأ من فعله تاليًا؟ هل يجوز هذا في حق حركة تحرر وطني؟ فإن قسطًا كبيرًا من أعمال المقاومة المسلحة هي أعمال فردية أو لا مركزية حتى لو قام بها أفراد أو مجموعات ينتمون لفصائل معينة، فكما كان الحال في الانتفاضة الثانية فإن الظروف الأمنية كانت تقطع صلات الأفراد والمجموعات بفصائلها، فضلاً عن كون كثير من الأعمال قام بها مواطنون مستقلون عن الفصائل، أو لم تكن لهم سابقة تنظيمية وبحثوا عن الفصائل التي تحقق لهم رغباتهم في ممارسة المقاومة، وهذه الحقائق كلها تخفف من غلواء وصف المقاومة المسلحة بأنها عمل نخبوي فصائلي، وتمنحها صفة أخرى هي جديرة بها وهي صفة الشعبية والعفوية.

(4)
هذه ليست محاولة لجعل المقاومة في منأى عن النقد، وليست دفاعًا عن الفصائل التي تستحق الكثير من النقد، ولكنها محاولة لبيان الخطأ في نقد لا يبدو أنه ينهض على قاعدة الإيمان بالمقاومة والسعي لتطويرها، وإنما ينهض على رؤى تفتقر للتماسك والوضوح والتحديد، ويعجز عن تقديم تصورات عملية، فما تحتاجه المقاومة هو النقد المحدد لأخطائها في إطار المعرفة المحيطة بظروفها الذاتية والموضوعية، أما الحديث السهل عن كلفتها فنتيجته الأكيدة الدعوة للكف عنها، خاصة وأن البدائل المقترحة ليست بالسهولة الممكنة ولا تجيب على سؤال الكلفة والذي يشكل محور هذا النقد الذي ناقشناه.
التعليقات (0)