قضايا وآراء

"طوفان الأقصى".. وسقوط معادلات ما قبل 7 أكتوبر..

صالح عطية
"طوفان الأقصى"، لم يزلزل أركان "إسرائيل" فحسب، ولم يبعثر أوراق النظام العربي الرسمي فقط، إنما استحثّ النظام التركي، بصيغته الأردوغانية..  الأناضول
"طوفان الأقصى"، لم يزلزل أركان "إسرائيل" فحسب، ولم يبعثر أوراق النظام العربي الرسمي فقط، إنما استحثّ النظام التركي، بصيغته الأردوغانية.. الأناضول
عندما ضربت المقاومة تلك الضربة المزلزلة، كيان إسرائيل، ذات السابع من تشرين الأول/ أكتوبر المنقضي، حاولت بعض التحاليل المتهافتة، أن تحصر الصراع بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني، أو بين إسرائيل وحركة (حماس)، في محاولة لتضييق أفق الصراع، وضبط بوصلته، وخنق اتجاهاته، بحيث لا تكون له امتدادات جغراسياسية، إقليمية ودولية، في مستوى الحدث، وفي حجم "طوفان الأقصى"، وهوله..

اشتغلت "ماكينات" إعلامية وسياسية ودبلوماسية، هنا وهناك، في الشرق كما في الغرب، لكي تحيل الصراع، إلى مجرد "قتال عسكري"، يحتمل الضحايا، من شهداء وقتلى وجرحى ومصابين وأسرى، مع ما يتبع ذلك من تدمير وحشي للبيوت والمؤسسات والمنشآت والبنى التحتية، وأماكن العبادة، من مساجد وكنائس وغيرها.. وتحولت نشرات الأخبار، وبرامج المتابعات والتحاليل السياسية والعسكرية ـ على أهميتها ـ إلى منابر "تسجيلية" للأحداث وركام الخسائر البشرية والمادية، وحجم التوحش الإسرائيلي، الذي ينزل إلى مستوى من البربرية، التي تذكّر بحقبة ما قبل التاريخ..

لكنّ مسار "طوفان الأقصى"، اتخذ له سربا في الجغرافيا السياسية للمنطقة، واخترق جدران المستقبل، بأبعاده العربية والإسلامية والإسرائيلية والغربية، وأبان بكامل الوضوح، عن سياقات جديدة، سواء تعلق الأمر بالتوازنات السياسية، أو بالمعادلات التي فرضتها مجريات الأحداث وتطوراتها، أو بإعادة التفكير في الأحجام والقوى وديناميكية التأثير السياسي والجيوبوليتيكي في المنطقة العربية، والفضاء الإسلامي بشكل أعمّ، وعلى نطاق الوجود العربي والإسلامي في الغرب بصورة عامة..

سمفونية "قوة الردع"

لقد كشف "طوفان الأقصى"، أنّ التوازنات، لا تخضع بالضرورة إلى منطق "القوة العسكرية"، التي طالما خوفت بها إسرائيل شعوب المنطقة وحكامها ونخبها وطبقتها السياسية، انطلاقا من فكرة (القوة العسكرية الرابعة في العالم)، و(الجيش الذي لا يقهر)، و(الموساد)، الذي يخترق كل شيء وفي أي مكان، والآلة الإعلامية الصهيونية، التي أقنعت الرأي العام الغربي وقسما مهما من الرأي العام العالمي، بأنّ الوحشية والرغبة في القتل والتدمير، ليست سوى "دفاعا عن النفس"، وأنّ دفاع المقاومة الفلسطينية، عن الأرض، ومواجهة الاحتلال، "إرهاب إسلامي فلسطيني"، بما يبرر لإسرائيل مزيد البطش بكل شيء موجود ومتوفر على الأرض الفلسطينية..

لقد سقطت هذه السمفونية المشروخة، واتضح للعالم بأسره، بأنّ القوة الإسرائيلية الجبارة، المدعومة أمريكيا، بالمال والعتاد والبشر والإعلام، والموقف السياسي، ليس كافيا لإقامة دولة بالقهر والقوة والغضب، رغما عن التاريخ والجغرافيا، فضلا عن المنطق الأخلاقي والحقوقي والقانون الدولي الإنساني..

إنّ القوة ـ كما كشفت ذلك المقاومة الفلسطينية، بقيادة حماس ـ أداة، لا يمكنها تحقيق النصر من دون فكرة و"عقيدة عسكرية"، وأفق للمستقبل، يتجاوز منطق الأرض والجغرافيا، ويرتبط بمشروع فكري وسياسي، ربما كانت (حماس) معبّرة عنه، أصدق وأبلغ تعبير، لكنّها ليست سوى طرفا فيه، وجزء أساسيا منه، ـ وبالتأكيد ـ ليست الطرف الوحيد، وهو ما تصرّح به قياداتها ومثقفوها بكلّ تواضع..
كما اتضح للعالم أيضا، بأنّ إرادة أصحاب الأرض، وعنفوان الفكرة، وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، ليست مجرد لوائح أو مبادئ في الأمم المتحدة، وفي لجانها الحقوقية المتفرعة عنها، إنما هي ثوابت عقدية، بالمعنى السياسي والقيمي والديني والتاريخي للكلمة.. وهو ما قد لا تكون إسرائيل ومنظّروها في الداخل والخارج، انتبهوا إليها جيّدا، واستوعبوها بالصورة المثلى..

لقد كسف "طوفان الأقصى" يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، عن توازنات جديدة، ليست إسرائيل محددة لها، والدليل على ذلك، أنها بعد أكثر من 28 يوما من القصف والتدمير والقتل الهمجي الممنهج، لم تستعد ما كان يعرف بــ "قوة الردع"، التي تملكها، والتي تستخدمها للتخويف والترهيب.. بل إنّ الأسابيع الأربعة الماضية، قدمت لنا الصورة العكسية تماما، وهي أنّ القوة، لا يمكن أن تؤدي بالضرورة، إلى الردع، وأنّ "الجيش الذي لا يقهر"، ليست سوى مقولة إعلامية تسويقية، أكثر منها، حالة عسكرية قادرة على تغيير المعادلات على الأرض، وإثبات ما اتضح أنّه وهم وسراب، كانت الأمة تعيش على أهدابه لنحو 70 عاما تقريبا..

إنّ القوة ـ كما كشفت ذلك المقاومة الفلسطينية، بقيادة حماس ـ أداة، لا يمكنها تحقيق النصر من دون فكرة و"عقيدة عسكرية"، وأفق للمستقبل، يتجاوز منطق الأرض والجغرافيا، ويرتبط بمشروع فكري وسياسي، ربما كانت (حماس) معبّرة عنه، أصدق وأبلغ تعبير، لكنّها ليست سوى طرفا فيه، وجزء أساسيا منه، ـ وبالتأكيد ـ ليست الطرف الوحيد، وهو ما تصرّح به قياداتها ومثقفوها بكلّ تواضع..

ارتباك الداخل الإسرائيلي

ولأنّ القوة، ليست وحدها محددة في ديناميكية الصراع بين المحتلّ وقوى التحرير الوطني، فإنّ "طوفان الأقصى"، ضرب في العمق منطق القوة الإسرائيلية، وتسبب في هذا الشرخ الكبير، الذي نتابعه اليوم بين مكوّنات الكيان المحتلّ..

فالداخل الإسرائيلي، يغلي بشكل غير مسبوق: بين الحكومة والمعارضة (لا بل بين مكونات الحكومة اليمينية ذاتها)، وبين أوساط اليسار الإسرائيلي واليمين المتطرف والمستوطنين، وبين العسكر والساسة، وبين النخب والمؤرخين وقسم مهم من الإعلام، والأوساط الرسمية، وبين الداخل الإسرائيلي، و"الخارج" الإسرائيلي، من جهة الجاليات اليهودية، ومناصري إسرائيل هناك في الغرب.. فثمّة في مستوى هذا "الخطّ"، أكثر من تحفظ ونقد وغضب ومراجعات بدأت تطفو على السطح، مقرّة بــ "أخطاء استراتيجية"، وبــ "مزاعم دينية واهمة"، و"تقديرات سياسية خاطئة"، على مرّ الخمسين عاما الماضية، على الأقل.. بما يؤشّر لتغييرات عميقة في هذا الكيان الغاصب، ويجعل فكرة "دولة إسرائيل" (دعك من "إسرائيل الكبرى")، ومستقبلها، تطرح أكثر من سؤال، تترجمه أعداد النازحين والمهاجرين الإسرائيليين، الذين حزموا حقائبهم، بعد 7 أكتوبر، وعادوا إلى بلدانهم الأصلية، في الشتات، حيثما كانوا قبل وعد بلفور المشؤوم، وهو ما يعني، أن "مورفولوجيا" الوجود الإسرائيلي ذاته، بدأت تتآكل وتضعف، بل وترتدّ كأكذوبة تاريخية، لم ترتق يوما إلى مستوى "المشروع"، كما كان يقول الأستاذ الكبير عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، أحد أهمّ من درس الصهيونية و"الفكر الإسرائيلي"، وانتهى إلى خلاصات جديرة بالقراءة والتسويق لها في عالمنا العربي..

إسرائيل يوم 6 تشرين الأول/ أكتوبر، ليست "إسرائيل" بعد السابع من أكتوبر، وهذا ما تحاول القيادة السياسية والعسكرية في تلّ أبيب وفي واشنطن، إخفاءه، رغم أنّ سلوكياتها وطريقة تعاطيها مع ما بعد "طوفان الأقصى"، تؤكد ذلك وتدعمه بقوّة..

النظام الرسمي العربي.. إلى زوال

والحقيقة، ليست إسرائيل وحدها من سيدفع فاتورة "استبداد الشرق"، على رأي المفكرين العرب بداية القرن العشرين، إنما كذلك ـ وبالتبعية ـ النظام الرسمي العربي، وهذه "الحكومات الوظيفية"، المكلفة بمهام، رعاية التخلف العربي الإسلامي، ومنع النهوض السياسي والاقتصادي والحضاري للأمة، والعمل كوكلاء لدى الكيان الإسرائيلي والغرب، وجعل الثروات العربية الضخمة، جزء من حسابات بورصات لندن وباريس ونيويورك وبرلين وغيرها.. لا تأثير لها في عالمنا العربي والإسلامي، لا على التعليم، ولا على الثقافة، ولا على الخيارات السياسية، ولا على المقاربات التنموية، ولا على مستوى استقلال أوطاننا، التي ظلّت منذ نحو قرن تقريبا، "حدائق خلفية" للمستعمرين، الذين لم يخرجوا منها إلا ليبقوا، بفضل هؤلاء الحكام، وأدوارهم ومهماتهم التي يضطلعون بها، بالوكالة عن إسرائيل والغرب المستعمر عموما..

لذلك، يلحظ المرء هذا الصمت المريب للحكام العرب، بل وهذا التواطؤ والحرص على تدمير غزة وأهلها ومقاومتها..

أدرك هذا "النظام العربي"، أنّ انتصار (حماس)، يعني ــ في المحصّلة ــ نهاية "الدولة الوطنية العربية" الوارثة للاستعمار البريطاني والفرنسي، ومدخل لصعود فكرة المقاومة في الجسم العربي الراهن، وإيذان بتغيير عميق في بنية هذا النظام، وأسسه ومكوناته ورموزه، بما ينهي عمليا، أخطبوطا واسعا من "الكانتونات السياسية"، واللوبيات الاقتصادية والمالية، وأنظمة قانونية تدور في فلك إسرائيل ومصالحها، والغرب وحسابات أمنه القومي، ولنا في هذا السياق، أمثلة كثيرة، لعلّ أهمها، قوانين مكافحة الإرهاب، المعتمدة في العالم العربي، والتي صيغت بهواجس وحسابات غربية، إسرائيلية بالأساس، لمقاومة كل نفس تحرري مقاوم في أوطاننا..

فليس غريبا، أن تسوّي الجامعة العربية، من خلال أمينها العام، أحمد أبو الغيط، بين الجلاد المحتلّ (إسرائيل)، والضحية المقاوم (حماس وبقية الفصائل)، بل من خلال الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، الذي اعتبر أنّ ما اقترفته (وكأنه جرم) حماس، "لا يلزم الشعب الفلسطيني، ولا منظمة التحرير الفلسطينية"، قبل أن تحاول الرئاسة الفلسطينية ـ متراجعة ـ التخفيف من هذه "الرعونة العباسية"، غير المبررة على الإطلاق، لا توقيتا ولا أخلاقا، إلا من زاوية كونها، دفاعا عن استمرار مكونات هذا النظام العربي، ودوره الوظيفي لدى إسرائيل..

إنّ دعوة محمود عباس مؤخرا، إلى قمّة عربية طارئة، لتدارس الوضع العربي الراهن بعد "طوفان الأقصى"، يعكس بوضوح، رغبة النظام العربي (ومن داخل البيت الفلسطيني بالذات)، في البحث عن مخرج لإسرائيل، ومحاولة لإيقاف حلقات مسلسل الانتصار الحمساوي ـ الفصائلي، لأنّ هزيمة "إسرائيل"، تعني، النهاية المحتومة لهذا النظام العربي، الذي رأى في طوفان الشعوب العربية المتظاهرة تلقائيا في الشوارع دون قيادات حزبية أو سياسية، مطالبة بالحق الفلسطيني، وبمحاسبة إسرائيل قضائيا، وإسقاط هذه الأنظمة، رأى في ذلك، ربيعا عربيا حقيقيا، سيولد من رحم "طوفان الأقصى"، بأبعاد جديدة، "فوق وطنية"، بعد أن نجح النظام العربي، بالتعاون مع إسرائيل والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، في إفشال الربيع العربي الذي انطلق قطاره في العام 2011، وإدخاله غرفة الإنعاش، بعد أن شوّه مقولاته وقيمه وشعاراته ورموزه وتطلعات شعوب المنطقة..

ليست إسرائيل وحدها من سيدفع فاتورة "استبداد الشرق"، على رأي المفكرين العرب بداية القرن العشرين، إنما كذلك ـ وبالتبعية ـ النظام الرسمي العربي، وهذه "الحكومات الوظيفية"، المكلفة بمهام، رعاية التخلف العربي الإسلامي، ومنع النهوض السياسي والاقتصادي والحضاري للأمة..
لقد ارتقى "طوفان الأقصى"، بالصراع، من إطاره القطري (الفلسطيني/ الإسرائيلي)، إلى السياق الأوسع، وهو التحرر العربي والإسلامي، من ربقة الاستعمار القديم المتخفي، خلف الأنظمة العربية التي تدار بالريموت كونترول، إلا ما رحم ربك، من دول ــ وهي قليلة، وتعدّ على أصابع اليد ـ أدركت أنّ الأفق الجيو ـ بوليتيكي، مختلف تماما، وبعيد كل البعد عن تفكير أنظمة الجامعة العربية..

إنّ النظام العربي الرسمي، قبل 7 أكتوبر، مرحلة... وبعد "طوفان الأقصى"، سياق آخر مختلف.. لأنّ نسبة 60 إلى 70 بالمائة من شباب الأمة، لن يرضوا بحكام بعقول من حقبة الخمسينات والستينات.. فلكلّ عصر، شعوبه ومثقفوه وحكامه وتحالفاته ولغته وفكره..

تركيا.. و"الصمت الاستراتيجي"

لكنّ "طوفان الأقصى"، لم يزلزل أركان إسرائيل فحسب، ولم يبعثر أوراق النظام العربي الرسمي فقط، إنما استحثّ النظام التركي، بصيغته الأردوغانية..

فتركيا المستهدفة بالانقلاب، من قبل الغرب وإسرائيل وأغلب مكونات النظام العربي ـ إذا استثنينا قطر والمغرب وليبيا ـ وهو ما أكدته الانتخابات الأخيرة، تابعت تطورات "طوفان الأقصى"، بـ "صمت استراتيجي"، كما وصفه بعض المراقبين، لكنّها سرعان ما أدركت وتيقنت، بأنّ أيّ ضربة للمقاومة الفلسطينية، ستطيح بتجربتها السياسية، ليست الديمقراطية فقط، إنما أيضا وأساسا، تجربة استقلال القرار الوطني، الذي بدأ يتعزز باستعادة أنقرة، لثرواتها (بترول ـ غاز)، بموجب نهاية العمل باتفاقية "لوزان" (1921)، التي كتبت لحظة سقوط الإمبراطورية العثمانية، ونهاية ما عرف بــ "الرجل المريض"..

لكنّ هذا السياق التركي الجديد، لم يمنع الرئيس رجب طيب أردوغان، من استعادة زمام المبادرة، مهددا بأنّ بلاده، "يمكن أن تأتي في التوقيت غير المنتظر"، كما قال مؤخرا، في إشارة إلى أنّ أنقرة لن تسكت عن هذه السطوة الإسرائيلية المتجبّرة مع غزّة.. ويقينا من القيادة التركية ـ وهذا الأهم ـ أنها ستكون معنية بالحساب الإسرائيلي والغربي والعربي لاحقا، إذا ما قدّر لتلّ أبيب، النصر على المقاومة واحتلال قطاع غزّة مجددا، والقضاء على حركة حماس، ليس بوصفها أحد مكونات المقاومة الفلسطينية فحسب، إنما كذلك، لأنها تمثل أحد ترميزات "الإسلام السياسي"، في أبعاده المقاومة والمناضلة..

وهنا يجدر بالمرء، التساؤل عن علاقة ما يجري في غزّة، بمستقبل "الإسلام السياسي" في العالم العربي، وفي منطقة الشرق الأوسط؟

مستقبل "الإسلام السياسي"  

يبدو واضحا، أنّ الهبّة الأمريكية الكبيرة، عسكريا وماليا وسياسيا ودبلوماسيا وإعلاميا، والدور البريطاني ـ الفرنسي ـ الألماني، وبدرجة أقلّ الإيطالي، والموقف الأوروبي، لم تكن جميعها لمصلحة إسرائيل ودفاعا عنها فحسب، بل كانت بسبب المخاوف من انتصار حركة (حماس)، بوصفها إحدى تعبيرات الإسلام السياسي، في صيغته المقاومة.

بعد 7 أكتوبر 2023، ستشهد منطقتنا ـ بلا شكّ ـ توازنات جديدة، ستبنى بالدم والدموع، وسنلحظ معادلات برائحة ربيع عربي جديد.. فالشعوب التي خرجت نصرة لغزّة، لن ترضى بغير استقلال القرار العربي، بقيادة فلسطينية جديدة، من مخاضات المقاومة التي بدأت في دفن ما تبقى من النظام العربي والمرحلة السابقة..
لقد أطاح هؤلاء جميعا بحكم "الإسلام السياسي"، في اليمن وليبيا ومصر وتونس، وأفشلوا الثورة السورية بصفة مبكرة، حتى لا تستعيد المنطقة ما كان يعرف بــ "الهلال الإسلامي الخصيب" تاريخيا، وأنهوا ما سمي بــ "ثورات الربيع العربي"، التي رفعت تلقائيا شعار "الشعب يريد تحرير فلسطين"، فكان ذلك إيذانا ببداية عهد جديد، ستكون فيه "إسرائيل" مستهدفة من قبل حركة الشعوب المتطلعة للحرية والكرامة والاستقلال، والتي لم تر في هذه التطلعات، تمفصلا عن الهدف الأساسي، "تحرير فلسطين"..

لذلك، حرّك الغرب وإسرائيل والدولة العميقة في العالم العربي، جميع أدوات (المقاومة) لهذا الربيع العربي، من أموال واستعلامات وتوظيف إعلامي، وتشويه لهذه الثورات ورمزياتها، وتشكيك في هويتها وأبعادها، واستهداف لمآلاتها الديمقراطية، ومنعت إرهاصات النهوض في مجالنا العربي، عبر استعادة النظام الرسمي العربي، بآلياته القديمة، من استخبارات وقوى صلبة، ولوبيات إعلامية وسياسية، وأجهزة ومؤسسات مالية ورجال أعمال، تم استنهاضهم جميعا، لمنع "الإسلام السياسي" من النجاح خلال تجارب حكمه، خصوصا في مصر وتونس وليبيا، كما استدعي المغرب، لتجربة مشوّهة من هذا الإسلام السياسي، وتم إخراج الجميع من الحكم، إما بانقلابات دستورية (تونس)، أو باستدعاء جنرالات الأنظمة القديمة المستبدّة (حفتر في ليبيا)، أو إخراج عبد الفتاح السيسي من قمقم المؤسسة العسكرية، في انقلاب عسكري مسيّس، استخدمت فيه تيارات سياسية مناهضة للإسلام السياسي، للتعبير عن الحاجة إلى هذا الانقلاب..

ولا شكّ، أنّ هذا الشكل من الإسلام السياسي ـ وعلى الرغم من ركونه للتعاون مع المنظومات القديمة التي ثارت عليها الشعوب ـ إلا أنّ الرفض الإسرائيلي ـ الغربي ـ العربي، كان واضحا، فما بالك إذا تعلق الأمر بحركة إسلام سياسي، مقاومة ومناضلة، على غرار (حماس)؟!

من هنا، يمكن القول، إنّ "الإسلام السياسي"، يبدو اليوم ـ ومن خلال حكم حماس ومقاومتها للاحتلال ـ أمام امتحان كبير، فالنصر يعني، استئناف دورة حضارية جديدة، كما يقول الدكتور والفيلسوف التونسي، أبو يعرب المرزوقي، برؤية جديدة، وتصور مغاير للحكم والسياسة والعلاقات الدولية، تنهي تلك التصورات البائسة التي تابعناها خلال السنوات العشر التي تلت العام 2011.. أما الهزيمة ـ لا سمح الله ـ فتعني شيئا آخر، ومرحلة أخرى مغايرة..

بعد 7 أكتوبر 2023، ستشهد منطقتنا ـ بلا شكّ ـ توازنات جديدة، ستبنى بالدم والدموع، وسنلحظ معادلات برائحة ربيع عربي جديد.. فالشعوب التي خرجت نصرة لغزّة، لن ترضى بغير استقلال القرار العربي، بقيادة فلسطينية جديدة، من مخاضات المقاومة التي بدأت في دفن ما تبقى من النظام العربي والمرحلة السابقة..

*كاتب وإعلامي من تونس
التعليقات (2)