قضايا وآراء

مكابح اليسار العربي وهراوات التيار القومي

نزار السهلي
قوميون في خدمة الاستبداد- فيسبوك
قوميون في خدمة الاستبداد- فيسبوك
بالرغم من عدم قبول معظم أحزاب اليسار العربي بفكرة وواقع اندلاع ثورات عربية في العالم العربي، وتبني بعض نخب التيار القومي العربي لفكرة المؤامرة التي تعصف بأنظمة العسكر والفساد، وفقاً لكثير من المواقف التي ساندت الثورات المضادة ونعتت انتفاضة الشعوب بأوصاف من قواميس الطغاة، فإن الخطاب المؤسس أصلاً لفكرة "قومية ويسارية" اتخذ من شعارات الثورة أحلاماً للتغيير ولجمع العرب في بوتقة واحدة من المصالح، مع طرح أسئلة حاسمة حيال قضايا عربية مرتبطة بالحرية وقضية فلسطين وعمقها العربي، والتحول في حالة المجتمع وبُناه الطبقية، التي انهمك اليسار العربي عقوداً بالتنظير وطرح الاستنتاجات المختلفة لها، إما بالتبشير دوماً باستعادة "نهوض عربي" حققه عسكر الانقلابات العربية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، أو باستعارة الاستخدام الأسهل لقضية فلسطين لتغطية كل عيوب القهر والفساد والقمع وستر عجز القوى والأحزاب نفسها عن مواكبة الشارع والوقوف بجانب آلامه وأحلامه.

الاعتقاد بأن التركيز على نوعية محددة من خطاب عربي ضد الثورات، يؤدي لفسحة ضئيلة من أملٍ في مستقبل عربي، زاد من الثغرات الشاملة والقطيعة النهائية مع الشارع العربي، وبالانحياز الكلي من تيار "قومي عربي" ومن يسار داعم لديكتاتوريات قمعية بلا تمييز، وإعطاء تفسيرات لثورات عربية انبثقت من واقع مثخن بدموية وتحطيم شامل، وربطها بذرائع تخدم إعادة الاستبداد لبسط سيطرته والتنكر لدماء عربية سقطت على طريق التحرر من الطغيان والاستبداد والقمع، وتمجيد أنظمة استخدمت القومية العربية وشعارات تحرير ودعم فلسطين، لغرض سحق المطالبين بإحداث تغيير وتحرير شعاراتٍ من أساطيرها الأزلية في أقبية السلطات الحاكمة، والخروج لفضاء عربي يمكن الحديث فيه عن بدايات جديدة ومقنعة، كل ذلك يدفع بالسؤال عن دور تلك الأفكار والتيارات والأحزاب في ظل ظروف متغيرة لا تلائم شارعا عربيا من الصعوبة استهباله بنفس الأدوات والهراوات المساندة لها.

بعض منظري "التيار القومي" وأشقائهم في قوى وأحزاب ثورية ويسارية عربية أمضوا الكثير من الوقت وبذلوا الكثير من الجهد لإطلاق التوقعات المختلفة، بعيداً عن حسم مسألة الحرية والحريات، بغض النظر عمن طرح أقل أو أكثر تحريراً بجرأة التبشير للخلاص من أنظمة الفساد والرجعية العربية، كمقدمة لحل المشكلات الأساسية التي تواجه المجتمع العربي في بناء المواطنة والكرامة الإنسانية وتحقيق التنمية، كمؤسس رئيس لانخراط عربي في معركة تحرير فلسطين أو مواجهة بقية التحديات الباقية منذ مطلع القرن الماضي

صحيح أنه لا يمكننا معرفة المستقبل، لكن بعض منظري "التيار القومي" وأشقائهم في قوى وأحزاب ثورية ويسارية عربية أمضوا الكثير من الوقت وبذلوا الكثير من الجهد لإطلاق التوقعات المختلفة، بعيداً عن حسم مسألة الحرية والحريات، بغض النظر عمن طرح أقل أو أكثر تحريراً بجرأة التبشير للخلاص من أنظمة الفساد والرجعية العربية، كمقدمة لحل المشكلات الأساسية التي تواجه المجتمع العربي في بناء المواطنة والكرامة الإنسانية وتحقيق التنمية، كمؤسس رئيس لانخراط عربي في معركة تحرير فلسطين أو مواجهة بقية التحديات الباقية منذ مطلع القرن الماضي.

لكن من المفاجئ أن نرى كم كانت تلك الأحزاب والقوى الوريثة لهذه الأفكار، مترددة ومتنكرة لذاتها أولاً وللإنسان العربي ثانياً، وبنفاذ بصيرة بعض النخب الحاملة لأيديولوجيا تتخطى الحاضر بالاقتيات على ماضٍ لن يعود بأمميته واشتراكيته وناصريته وبأقطابه العادلة، وحاضرٍ انفكت عنه بتقبيل هراوة المستبد ودعم أنظمة قتلٍ وفساد، وبالتركيز على تحليل ماضٍ ومؤامرة، لمحاولة تنقية وتطهير الطاغية العربي.

يفقد الخطاب القومي ونخبه من اليسار الضوابط الأخلاقية حتى بالتطور السياسي الآخذ بالانحدار وبالتضاؤل أكثر، فالحديث والتركيز على دور الأحزاب اليسارية أو محاولة إنعاش خطاب قومي عربي من بلاط هذا الطاغية أو ذاك في البحث عن كيفية حشد الشارع لدعم من يدوس على رؤوس البشر ومن يحطم حواضرهم، هو سقوط في هوة عميقة لتلك النخب وأحزابها.

إذا كان هناك حد أدنى من الالتزام بالشعارات المطروحة عربياً، من قوى وأحزاب وطنية وقومية ويسارية، لبناء أسس مجتمعات مدنية وديمقراطية للخروج من أزمات كثيرة، وربط ذلك ببعدٍ عربي ديمقراطي من الناحية الموضوعية، كما تُقر ذلك جل الأدبيات، لما شهدنا هذا البون الشاسع لرموز تلك الأحزاب والتيارات مع الشوارع العربية

اللمحات الأخيرة حول درجة مساهمة خطاب ومواقف قوى وأحزاب يسارية وقومية عربية، من الثورات العربية ومن جرائم طالت ملايين البشر، تضاعفت مرات كثيرة منذ أكثر من عقد، وزاد بشكل مطلق ونسبي الدعم الذي وفرته تلك المواقف وتقلباتها من حالة التباعد مع الشارع. وبالنتائج المدمرة لإرث هذه القوى والأحزاب، لا يمكن البناء على مواقف تواجه العربي لا في درء المؤامرات ولا الانخراط في معارك مواجهة التطبيع والقمع، بينما السحق اليومي يقوض منطق حياة "الثوري" وفكره. وبعدم النظر للشارع العربي على أنه أداة تغيير اجتماعي وسياسي واقتصادي وجذري، لا يمكن المساهمة بتدابير نجاة حقيقية لبناء أي تغيير، وترجمة أي أفكار بعيداً عن السطحية التي أصبحت محورية في خطابٍ قومي ويسارٍ عربي.

أخيراً، إذا كان هناك حد أدنى من الالتزام بالشعارات المطروحة عربياً، من قوى وأحزاب وطنية وقومية ويسارية، لبناء أسس مجتمعات مدنية وديمقراطية للخروج من أزمات كثيرة، وربط ذلك ببعدٍ عربي ديمقراطي من الناحية الموضوعية، كما تُقر ذلك جل الأدبيات، لما شهدنا هذا البون الشاسع لرموز تلك الأحزاب والتيارات مع الشوارع العربية.

وباختصار، كل المواقف لا تحل معضلات الوضع الناشئ عن تضخم القمع والاستبداد واستفحال التطبيع والتصهين، والتقدير الرديء للطاغية ووصف جيشه بالبطل "القومي"، لا يُحدث تراكما لاستعادة نهوض عربي تم التآمر عليه من نخب تدعي ثورية وقومية، وهي تمسك مكابح الطاغية وتصبح رمزاً متناسقاً له.

twitter.com/nizar_sahli
التعليقات (0)