مقالات مختارة

أدب البحار في بلدان الخليج العربي

1300x600
ليست كتابات البحار جديدة. المدونات القديمة تؤكد وجودها منذ أن بدأ الإنسان ينتقل عبر البحار لأسباب تجارية أو حربية أو غيرها، من خلال المراسلات، وتفسير الخرائط، والتعليقات، والشروحات والحواشي، وأدب الرحلات والملاحم التي تؤكد أن أدب البحار ليس جديدا، منذ الإلياذة والأوديسة، وربما قبلها. فهو قديم ويتشكل بخصوصية المنطقة التي ينشأ فيها، أو مركز الأحداث التي شهدها بحر بعينه دون غيره.

حرب طروادة بدأت من هناك. من على حافة سواحل طروادة. للبحار إذا تاريخ لا يتشابه وخصوصيات كبيرة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في أي جهد قرائي. المتوسط لا يشبه بحر الخليج. وبحر الصين لا يشبه المحيط الأطلسي وهكذا دواليك. من هنا، يجب تصحيح مصطلح أدب البحر بكلمة أخرى أكثر دقة وأكثر اتساعا: أدب البحار.

المسألة ليست مقتصرة على بحر واحد بمواصفات محددة، وكثيرا ما يُنظر إليها من خلال النظرة الطاغية للبحر المتوسط الذي شهد الرحلات والحروب الأكثر قسوة في الحضارات القديمة، ومنها الإغريقية التي أبدعت في تصوير كبير الآلهة زوس، ولكنها أبدعت أيضا إلها للبحار: بوسيدون، سيد الأمواج والعواصف والأهوال البحرية، أخو زوس وملك المحيطات. بدون رضاه، كثيرا ما تحولت البحار إلى مقابر مائية.

وإذا كانت بعض الروايات قد أخلصت للبحر من حيث موضوعها الرئيسي، كما تجلى في الرواية الشهيرة «العجوز والبحر» للأمريكي إرنست همنغواي، ورواية موبي ديك للأمريكي هيرمان ملفيل التي اتكأت على البحر وفي ذهنها التحول الكبير في المشروع الأمريكي بوصفها قوة صاعدة وممثلة للعالم الجديد، كقوة كونية وإمبراطورية إمبريالية تصادر كل ما حولها من حس إنساني مفترض. أو نص حكاية «بحار غريب» لغابرييل غارسيا ماركيز التي تتحدد فيها المصائر البشرية من خلال رجل في عرض البحر يصارع سمك القرش. 

المشهد الأدبي البحري العربي يرسم بلا منازع، اسم الروائي السوري حنا مينة الذي عُدت روايته «الشراع والعاصفة» واحدا من الأعمال العظيمة بانتسابها إلى أدب البحر. بطبيعة الحال، فإن النقاد يختلفون في المفاضلة بين رواية وأخرى عندما يكون الحديث عن أدب البحر، لكنّ حنا مينة يظل واحدا من الأسماء المهمة في الوطن العربي، التي التصقت رواياتها بالبحر. فقد جعل منه موضوعة متمايزة بخصوصياتها التي ترسم تراجيديا الإنسان في وجعه القدري، وعلاقته مع ما يجري حوله من صراعات وقضايا اجتماعية وسياسية متعددة.

ولهذا؛ فمن الصعب الحديث عن بحر واحد، بلون واحد، وبأهداف واحدة. كان المتوسط بالنسبة للفينيقيين عبارة عن مراس آمنة للتجارة وتبادل السلع. ولهذا الآداب التي نتجت في هذا السياق لا يمكنها إلا أن تحمل هذه السمات بالنسبة لشعب فينيقي لم يكن هاجسه الحروب. بينما الرومان كانوا على العكس من ذلك، البحر بالنسبة لهم كان مساحة حرب وسيطرة. كونوا فيه قواعد استعمارية لاحتلال أراضي الأمم الأخرى. 

كان البحر بالنسبة للمسلمين معبر إيمان للحج مثلما يبدو ذلك واضحا في رحلة ابن جبير، وأيضا مساحة حرب. الدولة العثمانية وتابعتها دولة الدايات والبايات والأغوات في الجزائر جعلت من البحر وسيلتها للدفاع عن نفسها وللمقايضات وتبادل الرهائن أو بيعهم. وكان البحر وسيطا بين المسلمين وبين الأمم الأخرى لتبادل السلع، بالخصوص عبر مسالك طريق الحرير. 

أما بالنسبة لأوروبا الجديدة، فالمعابر المائية والبحرية سهلت التخلص من الأندلسيين المطرودين بعد الركونكيستا (حروب الجلاء أو الاسترجاع) الذين قضوا في الأراضي الإيبيرية أكثر من ثمانية قرون.

للبحار لو نطقت صوت شجي وشقي، بسبب ما سمعت وما تلقت وما عانت. كان البحر أيضا وسيلة للاستكشافات الجغرافية والدينية الأكثر دهشة والأكثر توحشا أيضا، كيستوف كولومبوس. يمكننا اليوم أن نقول، إن لكل بحر آدابه وفق نموذجية المكان وخصوصياته. 

البحر متعدد في النوع والميزات الطبيعية والتاريخية. بحر الصيد، بحر المتعة والأسفار، بحر صد العدوان، وبحر التجارة، وبحر الحروب. لكن أيضا بحر الخرف والهروب من موت ينتظر، مثلما حدث مع الكثير من الشخصيات وأبطال الروايات التي تؤثث ثقافتنا. 

سيرفانتيس وهو يصف قصة اختطافه في عرض البحر وقصة خروجه منه سالما من الجزائر بعد أن أقام فيها كرهينة لمدة خمس سنوات. الحالة تختلف جذريا بين بحر المجهول وبحر المعلوم. البحر الذي نتجت عنه المعضلات الإنسانية الكبرى. بحر الاستعمارات الحديثة. فعندما استعمرت الجزائر دخل الاستعمار من السواحل ليبقى هناك أكثر من قرن ونيف. صاحب ذلك أدبيات عديدة وصلت حتى رواية المغامرات البحرية. كل بحر صاحبته كتابات كثيرة مرتبطة بطبيعة ما حدث فيه وعلى حواشيه.

التهجير الذي لحق بالموريسكيين خلق آدابا عديدة مركزها البحر الأبيض المتوسط. آداب الترحيل، كيف تم نقل الساكنة إلى أرض لم يعرفوها أبدا. رحلة البحار الاستكشافية لأمريكا، خلفت وراءها أدبا خاصا امتزج بمصاعب الرحلة وفرحة الاكتشاف، وجرائم الرحالة أيضا الذين كانوا يحملون مخططا واضحا حول نهب خيرات الشعوب الأخرى. كان ذلك إيذانا بالاستعمار العابر للقارات، تلتها جرائم دينية كثيرة لتمسيح السكان الأصليين بالقوة.

هذا النوع من الأدب العالمي يوجد أيضا في الخليج العربي الذي عرف تموجات كثيرة في العلاقة مع البحر لأنه كان مساحة حروب واكتشافات قبل أن يتحول إلى مكان البحث عن العيش وبالخصوص الغوص وصيد اللؤلؤ وقصص النواخذة. ويجب النظر إليه وفق هذه الخصوصية. 

في السنوات الأخيرة، تجلى هذا النوع بشكل ملموس. وقد تمت استعادته شيئا فشيئا من موقع الرواية التاريخية، فخلق ضربا من الكتابة تستحق كل الاهتمام والتنبه. لم تعد الظاهرة مقتصرة على كاتب واحد ولكنها توسعت.

عدد كبير من الكاتبات والكتاب سلكوا هذا المسلك، من مختلف الأجيال، ومن مختلف بلدان الخليج العربي. قطر. الكويت. الإمارات. البحرين. عمان. مثل الشراع المقدس لعبد العزيز آل محمود (قطر)، سلطنة هرمز لريم الكمالي (الإمارات)، النواخذة لفوزية شويش (الكويت) النجدي لطالب الرفاعي (الكويت)، الجوهرة والقبطان لزوبنة الكلباني (عُمان). نكتفي في هذا السياق بهذه المجموعة من الروايات التي تؤكد على أن الظاهرة ليست موضة عبثية، ولكنها محاولة استرجاع لتاريخ كبير ومطمور إبداعيا.

لقد سمحت لي أسفاري الكثيرة إلى بلدان الخليج العربي، بالخصوص إشرافي المتواتر على ورشات كتابة الرواية التاريخية في الكويت وعمان والإمارات بأن أكتشف فيها أن التاريخ فيها مهم بالخصوص تاريخ الوقائع البحرية والسفن التي كانت تجوبه. 

تاريخ البحر الخليجي في النهاية حقيقة موضوعية وليس تخييلا أدبيا. لم يكن بحرا عاديا فقد مر عبره البرتغاليون والإنجليز بوصفهم غزاة، والفرس والسفن العربية أيضا، وشكلوا الخليج على ما هو عليه اليوم. أي أن الرحلات البحرية لم تكن عبورا سهلا ولكن في الكثير من الأحيان كانت عبورا دمويا. وجود الظاهرة أدبيا وبكثرة في الخليج، يظهر إلى أي مدى هذه المسألة مؤثرة في الوجدان الجمعي الحي. البارجات الحربية، وحاملات النفط التي تعبره اليوم لأسباب حربية أو تجارية، لم تلوث هذه الرؤية التاريخية التي تعيد الروايات تشكيلها.

يحتاج هذا النوع من الأدب فقط إلى من يوليه الاهتمام الذي يليق به. كيفما كان الجيل والتجربة والقيمة الأدبية وحتى الموضوعة المعالجة، يؤكد هذا الأدب أن الممارسة الإبداعية تكبر اليوم بقوة في الخليج، وأن ما يحدث ليس حالة طارئة، ولكن حقيقية لها ما يبررها في الواقع الموضوعي والحياتي الصعب الذي عاشته دول الخليج العربي. مشروع أدبي كبير يستحق الاهتمام. ربما يتخفّى هناك جزء مهم من الخصوصية الأدبية الخليجية؟


نقلا عن "القدس العربي"