مقالات مختارة

بئس زمن المجامع والمجالس اللغوية

1300x600
بالأمس، قبل نحو 40 سنة، لم يكن هناك مجلس ولا مَجْمع (أكاديمية) للغة العربية، وكان قليل من الوزراء وكبار المسؤولين من وطئت أقدامهم الجامعة. ورغم ذلك كان الجميع يستحي أن يتلفظ في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية بكلمة أجنبية واحدة. وإن اضطر إليها فهو ينطق بها مُجبرا لا متباهيا ومفاخرا.

في ذلك الوقت، كانت وسائل الإعلام تعج بالأخبار ذات الطابع التنموي وزخم التدشينات (المصانع والسدود والجامعات والمؤسسات التنموية المختلفة). وكانت السلطات تتبع الطريقة التقليدية في عرض اللوحات الموضحة لتلك المشاريع في كل تدشين رسمي. من كان يتجرأ آنذاك تقديم تلك التوضيحات كتابة أو صوتا لكبار المسؤولين بلغة أجنبية؟ لا أحد نراه على الشاشة! أما اليوم فمن يتجرأ أن يقدمها بغير لغة فولتير؟ إذا ما حدث ذلك فهو يعد شجاعة يستحق عليها صاحبها الأوسمة.

وليس بعيدا عنا، يروى أن الرئيس التونسي زين العابدين بن علي قد ترك ذات مرة محدثه باللغة الفرنسية خلال حفل تدشين يواصل كلامه وانصرف احتجاجا على لغة التخاطب. أما خلفه الرئيس منصف المرزوقي فشاهدناه على الشاشة يحتج ويقاطع مرارا الصحفي الذي يخلط اللغتين ويطلب منه التحدث بلغة واحدة (اللغة الرسمية في تونس).

بالأمس، كان عندنا الانضباط العام يجعل الجميع يعرف حدوده في تجاوز ما كان يسمى "ثوابت وطنية". من الطبيعي أن يكون الأمر كذلك؛ فالتحدث رسميا بلغة ليست في الدستور يعتبر خرقا لا يقبله المنطق. أما اليوم فالتسيّب العارم في مجال اللغة قد طبع الجميع. هل هذا التسيّب الفظيع جاء بمحض الصدفة أو بفعل فاعل؟ 

... بفعل فاعل 

ثم خلف من بعد هؤلاء خلفٌ أضاعوا المنطق واتبعوا الشهوات وعاثوا فسادا في اللغة. وهكذا ظهرت في المجتمع فئات من المواطنين اختلفت رؤها في المسألة اللغوية، أبرزها:

1. فئة لا مبالية: وهي الغالبة عددا، تقلّد ما تراه، ولا يهمّها هذا التسيّب لأن كسب لقمة عيشها في ظل "العولمة" أولى من المبادئ.

2. فئة تبحث عن كبش فداء: هذه الفئة المتنوعة المشارب تتفق في ضرورة التخلص من اللغة العربية في البلاد، وتقدمها على أنها مصدر كل مصائبنا في التعليم، والسياسة، والفساد. كل هذا ناجم من المدرسة التي لا تعلّم التلميذ مكارم الأخلاق ولا تلقنه العلوم بوجهها الصحيح. ولماذا لا تقوم المدرسة بهذا الواجب المقدس؟ لأنها تُعَلّم بلغة سيبويه. ولو علّمت بلغة فولتير لكنا فُزنا بـ"غنيمة الحرب" وسرنا في طريق التقدم الذي تضمنه "الغنيمة". 

وكثير من هؤلاء يرون أن أوائل القادمين من المشرق غزاة لا فضل لهم علينا: لا عقيدتهم التي تبث الإرهاب تنفع، ولا لغتهم التي تنقل بذوره تفيد. وهم يسوّقون لهذه الأفكار لدى شرائح كثيرة من الجيل الصاعد الباحث عن غد أفضل. وكدليل ساطع على صدق هذا التحليل في دعواهم، يقولون: "انظروا إلى المشرق العربي! أي بلد يمكن أن يضاهي بلد فولتير في التقدم؟" وتلك حكاية أشبه بمن يتوقف عند "ويل للمصلين"، ويتناسى هؤلاء مواصلة طرح السؤال : "وأي بلد استعمره خلفاء فولتير وشكسبير وغيرهم من الاستعماريين، وتبني لغتهم قد بلغ درجة تُذْكَر في موضوع التقدم؟"

3. فئة قليلة نافذة وصاحبة قرار: تروّج للغة الأجنبية بنيّة كسر شوكة اللغة العربية بشتى الوسائل؛ لأنها الوحيدة التي تزاحم اللغات الأجنبية. ولهذه الفئة استراتيجيتها المتعددة الجوانب: 

- هي تعمل في الشارع: يتمثل أسلوبها في ترك الحبل على الغارب في المجال اللغوي في الحياة العامة، وكل من له محل تجاري مثلا يكتب على واجهته ما يشاء وبأية لغة وبأية أخطاء. كما يتعمد الإشهار استعمال اللغة الهجينة الركيكة التي لا تجد لها أصلا، ويركز عليها لترسيخها في ذهن المواطن عامة والشاب خاصة، فيفقد بذلك الفرد (والجماعة) الذوق اللغوي فينفر من الأصيل.

- هي تعمل في الإدارات ووسائل الإعلام: الاستمارات والبيانات المختلفة ذات الصلة بالمواطن، تتجه إلى الفرنسة أكثر من أي وقت مضى. مثال ذلك الفواتير والمراسلات بين المصالح الإدارية والوصفات الطبية. أما في وسائل الإعلام فصار المسؤول يتكلم من دون حرج بلغة أجنبية (وهو في كثير من الأحيان لا يتقنها) في نشرات الأخبار الرسمية، وفي القنوات الخاصة دون أن ينبهه الصحفي إلى مخاطبة المستمعين بلغة يفهمونها، بل إنه حين يدشن ويتفقد في ربوع البلاد المشاريع، يخاطب من يلتقي بهم من "الغاشي" بلغة غير لغة البلاد وينقلها التلفزيون كما هي!

- هي تعمل في التربية والتعليم: تعمل هذه الفئة كل يوم على ترسيخ الفكرة المروّجة لكون تعريب المدرسة هو سبب نكبتها، وأن المخرَج الوحيد هو العودة إلى اللغة الأجنبية. وهذا التوجه عبّر عنه بسخافة أحد كبار المسؤولين ذات يوم من بداية هذا القرن بقوله أمام الجمهور، إن "مشكل المستوى" قد حلّ لأننا سوف لن نقول بعد الآن في الرياضيات "جيب" و"تجيب" بل سنقول sinus وcosinus. 

ذلك كان في بداية القرن، وقبل يومين شاهدنا في نشرة أخبار الثامنة المفتش العام للتربية، مسقم نجادي، يخاطب حشدا من الصحفيين، وهو يعرض لوحة جاءت فيها جداول إحصائية تكشف عن مدى "نجاح" الإصلاح. ويلاحظ المشاهد أن لغة فولتير هي المستعملة في اللوحة دون غيرها. ولعل القارئ يعتقد أن المفتش كان بحاجة إلى مصطلحات تقنية عجزت اللغة العربية عن ترجمتها. لا، أبدا، بل كل ما فيها تسميات المواد المدرّسة (مثل رياضيات، علوم طبيعية...). هذه هي وزارة التربية الوطنية التي تدعي السهر على مستوى التلاميذ، وتقيّم، وتعدل، وتجتهد لرفع مستواهم باللغة العربية بصفة خاصة. المشهد السابق يتم أمام أعين الجميع والمفتش العام للتربية يخاطب الصحفيين بنصب الفاعل ورفع المفعول. والوضع اللغوي، كما هو معروف، ليس أفضل حالا لدى من اتخذت هذا المسؤول عونا لها.

أما في الجامعة، فقالوا إن استعمال العربية فيها مضر بالتحصيل العلمي، وأضاف المعتدلون منهم: "دعونا نتقدم أولا بلغة فولتير. وبعد ذلك، سننظر في القضية اللغوية". ولذا تفرنست الجامعات العلمية. لكن الوضع لم يتحسن. فما العمل؟ استنتج القوم، وفقا لمخططهم، أن المشكلة تكمن في تعريب التعليم الثانوي، ولا بد من فرنسته لنتقدم. وعليه فهم الآن يسعون إلى ذلك بكل قواهم. وعندما يتحقق المراد، دون تسجيل أي تحسن في التحصيل، سنكرر السيناريو نفسه ونقول: المرحلة الإعدادية هي المشكلة، وهكذا دواليك!! 

الوزير ابن بوزيد كان يقول: "انتظروا انتهاء الإصلاح وسترون القفزة النوعية"، وأعلن في نهاية عهدته عن نوعية قفزته وفاخر بها وانصرف!! وقبل بضعة أيام قالت الوزيرة ابن غبريت: "انتظروني 9 سنوات لتحكموا على نتائج إصلاحي". وها نحن من المنتظرين بغباء كبير لأن السيدة الوزيرة يبدو مقتنعة بمواصلة السهر بنفسها على المدرسة طيلة هذه المدة لتخرجها إلى برّ الأمان. 

وبالموازاة مع هذا الاستخفاف بالمواطن، تتمادى وزارة التعليم العالي في تقزيم دور المدارس العليا للأساتذة، وبصفة خاصة قتل مدرسة القبة العلمية بشتى الوسائل. وما السبب، يا ترى؟ من يستطيع نكران أن قرار الاغتيال هذا قد اتخذ ليواكب توجهات هذه الفئة؟! 

المَجْمعُ والمجلسُ

وفي هذا الخضم لا يسع المواطن إلا أن يطرح على مجمع اللغة العربية والمجلس الأعلى للغة العربية أسئلة كثيرة عسى أن يهدي الله القوم إلى سواء السبيل.

- أسئلة إلى جماعة المجمع: أنشئ مجمعكم منذ أزيد من 15 سنة، وهو تابع لأعلى هيئة سياسية في البلاد. ماذا قدمتم للغة العربية؟ ما هي منجزاتكم؟ إذا استثنينا تلك الملتقيات التي يعلم الكثير مآلها. لعل بعضكم يذكرنا بمشروع "الذخيرة"؟ هل من مشروع واحد أنجز؟ أكاديمية اللغة الفرنسية –إن كانت هي مرجعكم- ترفع صوتها من حين لآخر لترشد وتوجه وتتخذ القرار، وتدلي بالرأي، وترفض أن يعبث أحدهم بلغة فولتير أو يتطاول كبير أو صغير عليها. 

- أسئلة إلى جماعة المجلس: أنشئ مجلسكم منذ نحو 20 سنة. ماذا قدمتم لهذه اللغة التي أنشئت هيئتكم لخدمتها؟ 

نعم، أنشأتم جوائز سنوية، وهناك مجلة أو مجلتان. غير أن ذلك ليس بيت قصيدكم. 

نعم، هناك معاجم وبعض المؤلفات. لكن هذه المؤلفات لا زالت حبيسة الرفوف؛ لأن القانون يمنع ببيعها وتسويقها، وهذا يعني أنه يمنع الاستفادة منها. 

نعم، أنتم تشكلون من حين لآخر لجانا تتدارس وسائل خدمة اللغة العربية وسبل تعميمها. وماذا بعد؟ ما الفائدة من أعمال هذه اللجان إذا كانت نتائجها لا تُرى بالعين المجردة في الميدان؛ علما أن مهمة مجلسكم هي مرافقة اللغة في الميدان؟

نعم، المجلس لم يكن قادرا فيما مضى من السنين على إقناع المسؤول بتردي الأوضاع اللغوية سنة بعد سنة، وبضرورة التحرك في كل القطاعات. لم يستطع المجلس حتى التأثير ليُصوّب مثلا ما نراه في الشوارع والمحلات العمومية من أخطاء لغوية يندى لها الجبين، وما نراه من دوْس واستهتار وتجاهل للغة البلاد من قبل جل الرسميين. 

هل لا زلنا بحاجة إلى بيان لندرك أن المَجْمع والمجلس فشِلا فشَلا ذريعا بعلم المنتسبين إليهما وبعلم الهيئة الوصية؟ هل يَصْدق على هاتين الهيئتين قول القائل: "إن أردت أن تقتل قضية فاَنْشِئْ لها لجنة تتكفل بها"؟ دعونا نرى الملموس حتى نقتنع بأن هذه المقولة لا تنطبق على المجمع والمجلس معا!

الشروق الجزائرية