قضايا وآراء

حلب: معركة روسيا ضد إيران.. وتركيا ضد الغرب

1300x600
حلب ليست النهاية، عبارة قد تبدو صحيحة من جانب ما، والتقليل من حجم الكارثة كلام مفهوم في سياق معين. لكن الحدث استثنائي، وقد يحدد سلبا مستقبل سوريا كليا. وفي هذا المقال دعوة للتحرر من الشعر، والنظر في حقائق الجغرافيا والسياسة التي ليس فيها من قوافي العرب اليوم إلا الرثاء.

إن أخطر ما في نهاية حلب المأساوية هو مستقبل إدلب، المحافظة الوحيدة بيد المعارضة السورية (تسيطر المعارضة على مساحات الاستنزاف الواسعة، فيما يسيطر النظام على مساحات أصغر وأكثر تأثيرا في مراكز المحافظات كلها باستثناء الرقة وإدلب). الوضع العسكري الحالي لإدلب صعب جدا، وآليات سقوطها قد لا تعتمد بالضرورة استراتيجية "دبيب النمل" التي قضمت حلب قطعة قطعة منذ أكثر من ثلاث سنوات. ولكن هل الخوف على إدلب نابع من واقعها الجغرافي فقط؟ لا، وباختصار؛ لأن معركتها ستكون أجندة روسية ضد إيران، وربما أجندة تركية ضد الغرب، وبدم الثوار السوريين.

لن يفيد الكلام عن واقع المعارضة الميداني المشتت، إذ سيبدو الحديث في واقع اللاعبين الكبار في سوريا أكثر فائدة في تشكيل الإطار التفسيري للمشهد، وهذا كله لا ينفي بالمطلق ما تردده القصيدة بحق أبطال الميدان الذين يخوضون حرب الجميع. اليوم تبدو الإرادة الدولية التي يشترك فيها لاعبون إقليميون، رغبة أو عنوة، أوضح. إذ تقوم بترتيب أوراق الملف السوري عن طريق إعادة الأمور إلى نصاب مفيد، أي صناعة سوريا المفيدة للجميع. وعلى هذا الطريق أفل نجم الائتلاف السوري، الذي لا أشك بعدم معرفة معظمنا لاسم رئيسه الحالي، ويتم استبدال الواجهة السياسية للمعارضة بالهيئة العليا للمفاوضات التي يتشكل عمادها من "رجال دولة" سياسيين، قادرين على استيعاب المصالح الدولية والإقليمية بصورة أقل تعقيدا (مثل رئيس الوزراء السابق رياض حجاب، والسفير والوزير السابق رياض نعسان آغا).

 إن نظاما سلطويا هشا، يحتاج الخارج للبقاء، وليس لديه القدرة على تجاوز رغبات أصغر اللاعبين بعد التوافق على الحل السياسي، هو ما يمثله نظام بشار اليوم. وهنا ينبغي تذكر الفرق البسيط بين الدول والأفراد (حتى كمجموعات وفصائل)، الأولى يجب التعامل معها كصناديق سوداء، بخلاف الثانية التي تمارس السياسة انطلاقا من قواعد نظرية أخلاقية، لا تساهم كثيرا في رسم المشهد إلا بقدر اقترابها من الموقع السليم لكل صندوق.

هذا التقريب تبرهن عليه حالة تركيا اليوم بشكل واضح، حيث بدأت انخراطها بالملف السوري وكأنها فصيل للجيش الحر، وانتهت كصندوق مكتوم لا يعي إلا القواعد الفيزيائية للمادة في ملء الفراغ الناتج عن تدحرج عشوائي يستمر في المنطقة منذ خمس سنوات. وبالرغم من الاعتقاد السائد، والصحيح، بأن تركيا التي بذلت وسعها في دعم الثورة وتقدمت على كثير من دول الإقليم المناهضة للأسد؛ تكمن مصلحتها في انتصار هذه الثورة، فإن الواقع المحتمل لما بعد الحل السياسي ليس بالضرورة ضارا بالمصالح التركية. النظام الهش في سوريا بقدر ما سيعزز التهديد الكردي (هو ليس جديدا بطبيعة الحال) بقدر ما سيوسع من خيارات تركيا في التعامل مع هذا الملف، تحت مسميات لم تكن موجودة على الحدود الجنوبية من قبل. وإن كان هذا نابعا من قناعة تركيا اليوم في عدم القدرة على منع هذا التهديد، فالمنطق إذا الانشغال بخيارات التعامل المستقبلية معه. لن تخشى تركيا حينها انتهاك مجال دولة مجاورة بلا سيادة، وستجد من الأصدقاء المتحكمين فيها هناك ضالة ما، وستغطي حربها ضد الأكراد بألف غطاء دافئ، كالذي يتلفع به التحالف الدولي بأكمله اليوم. كل هذا قائم على حقيقة أن تركيا ليست خصما، ولا بالحد الأدنى، منذ بداية الحرب السورية، لروسيا أو إيران، فيما لو استثنينا غبار الشهور المعدودة لحادثة إسقاط الطائرة الروسية، التي مثل انقشاعها بتلك السرعة واحدة من براهين كثيرة على نظرية الصناديق المكتومة.

على صعيد النظام، فإن بقاء الأسد ليس محكوما بمجرد رغبات التحدي الروسية أو الإيرانية دوليا، الأمر قد يكون له حسابه الداخلي البحت. روسيا ليست معنية بانتهاء الحرب السورية على القسمة الضيزى الحالية بالنسبة لها. وخلافها مع إيران، أو على الأقل الامتعاض الإيراني من الوجود الروسي، هو محض حقيقة دللت عليه وقائع عدة لن يتسع مقام سردها هنا.

روسيا تصور نفسها على أنها المخلص للنظام القانع بذلك، ولإيران التي تأبى التسليم بهذا الافتراض. وبالتالي التكاليف الباهظة التي دفعتها روسيا من سمعتها وترسانتها واقتصادها؛ سيكون مرفوضا أن تُكافأ بحميميم والنافذة الساحلية السورية. فلا تزال روسيا حتى اليوم بلا موطئ قدم في العاصمة دمشق وكل ما هو جنوب حماة، وتحليق طيرانها في الجنوب هو جزء من محاولة إعادة تقسيم الكعكة بطريقة "أكثر عدلا".

وربما سيكون مفاجئا القول إن القناعة الإيرانية بانتهاء دور الأسد ربما تشكلت قبل عام ونصف على الأقل، وتحديدا مع توقيع اتفاقها النووي مع (P5+1)، فإيران تحكمت بكل أجهزة البلاد الحيوية، بما فيها مؤسسات الجدران العالية مثل أجهزة الأمن والحرس الجمهوري، ووصلت لمرحلة تحديد من يرأس هذه الأجهزة ومن ينفق عليها. ولم يعد لديها هدف في سوريا أكبر من تحقيق استقرار على ما وقعت عليه يدها، فإيران في فترة ما كانت جاهزة لصناعة سلم نزول المعارضة عن الشجرة بإسقاط الأسد على أنه انتصارها الموعود، وإعادة إنتاج نظام استقرار يحفظ مصلحتها.

فالفقرة السورية في الاتفاق النووي لا يشك أحد بوجودها، وهي سرية فقط إلى الحد الذي كشف عنه إسراع الأسد باستدعاء الروس بعد الاتفاق مباشرة (شهر ونصف بين توقيع الاتفاق وهبوط أولى طائرات موسكو في مطار حميميم). التدخل الروسي هو محاولة الأسد التي جاءت في توقيت دقيق، لكنه صحيح، من أجل خلق ميزان قوى جديد داخل سوريا أطال بعمر سلطته. وصل الروس سوريا، ولم يكن مسموحا لهم حتى اليوم استخدام إلا الأرض التي يسيطر عليها رجال الأسد من الريف الحموي حتى الساحل، وحتى اليوم يطمح الروس بدخول دمشق والجنوب (الجنود والضباط الروس دخلوا مناطق الجنوب والعاصمة كمندوبي جمعيات خيرية، في مهمات توزيع السلات الغذائية على الأهالي هناك فقط!).

من هنا يمكن القول إن معركة حلب كانت معركة النفوذ الروسي ضد المساحات الإيرانية؛ أكثر منها معركة تقليدية في سياق الحرب السورية الممتدة. وحرص روسيا على الظهور كراع لاتفاق إجلاء المدنيين مع لغة متصلبة ضد "حلفائه" على الأرض؛ مؤشر لم يأت اعتباطا، فهو من جهة يعلن عن تعديل القسمة، ومن جهة أخرى يقابل المبادرة الإنسانية التركية بشيء من الجدية كمؤشر التزام تفاهمي مع أنقرة.

والمشهد الحالي في حلب محكوم بقوة الجو الذي تؤمنه روسيا فقط، ومليشيات إيران، بكل خِرَقِها الحمراء والسوداء ورايات الثأر الدّجالة، لن تقوى على الحفاظ على حلب لثلاث ليال متتالية دون السوخوي الروسية. وقد نشهد أعدادا جديدة من الجنود الروس في شوارع حلب قريبا. ومهم هنا استذكار التقدم الملفت للثوار في حلب في مطلع آب/ أغسطس الماضي، عندما غابت الطائرات الروسية تاركة مليشيا سليماني تتعرف على حجمها الحقيقي. وبعد تقدم الثوار وكسرهم لحصار الشرقية؛ عادت قاذفات الجحيم الروسية وقلبت المشهد بعد أقل من شهر واحد لترسم خريطة سيطرة جديدة في حلب، ناقلة "راية لبيك" من أكف شيعة "الحسين" إلى أيدي شيعة "أبو علي بوتين"، كما يحلو لمؤيدي الأسد تسميته.

هنا سيكون من الجيد العودة لتركيا، التي وقفت تنظر إلى حلب مع جهد دبلوماسي مثمر في الجانب الإنساني. فمعركة حلب هي معركة الحليف الروسي، وقد لا يتبادر إلى الذهن السياسي شك في أنها معركة حصلت ربما بعلم مسبق لدى الأتراك. هذا ليس بالضرورة موقفا تركيا جديدا من الثورة، وإنما موقف تركي جديد من "حلفاء" الثورة المفترضين في الغرب. القناعة التركية بضرورة توزيع البيض على غير سلة الناتو والحلف الأمريكي لا تخطِئه العين، والخريطة الجديدة في سوريا لو تُركت للغرب لرسمها خارج الاحتياجات الأمنية القومية التركية. وهنا ليس للأتراك مناص من اللعب في حلبات متعددة لفرض أنفسهم كلاعب أكثر تأثيرا في مستقبل سوريا، فتركيا حريصة أن تبقى بوابة الغرب الرئيسية في الشرق.

ما تقدم يجعل معركة إدلب تحمل مخاطر مركبة، الأولى واقعها الحلبي جغرافيا، وثانيها أنها معركة روسيا الجديدة في مراحل إنهاء الملف السوري على "القسمة العادلة". وهذا كفيل بجعل الدور التركي، المتفاهم مع الروس أكثر من الغرب، يقتصر على التحضير لمبادرة إجلاء محترمة جديدة، وتجهيز عدد أكبر من مراكز الإيواء، التي قد تكون فرصة للإعلان عن وفاة الاتفاق الأوروبي التركي بخصوص اللاجئين، فتؤكد تركيا من جديد وبقوة أنها البوابة الأمنية الحرجة لأوروبا، في ظل توتر غير مسبوق بين الحليفين التقليديين.