مقالات مختارة

عتبات الغد.. ونهاية المدن الفاضلة

1300x600
يكتب الكاتب فيغيره كتابه، ويقرأ الكاتب فتغيره الكتب التي يقرأها. قد لا تُحدِث ذلك الأثر الفوري، لكن الكتاب الذي نقرأه لا يموت، إنه ينمو في داخلنا، ويكبر، ويغدو جزءا من تركيبة أرواحنا، حواسنا، وأفكارنا حول العالم، وحول أنفسنا.

ويكتب الكاتب ليقول هاجسا ما، مُلحّا، لا يستطيع الفرار منه. نحن نستطيع أن نهرب من الماضي في أحيان كثيرة، لكننا لن نستطيع الهرب من المستقبل.

والمستقبل هو العمود الفقري لروايتي الأخيرة، هواجسها، ما الذي ينتظرنا على عتبة الغد، إذ كنا قادرين على أن نشق طريقنا لذلك الغد، وما الذي ينتظرنا إن كنا نقف على حافة الهاوية.
ربما، ولأسباب كثيرة، لم نُعِر المستقبل ما يستحق، لأننا كرّسنا الكثير من طاقتنا لنعيش في الماضي، كما لو أنه المستقبل الوحيد لنا!

لا يمكن أن يكون المستقبل خلفك. لكنه يستطيع أن يكون حاضرك، اليوم، إذا ما عشنا اليوم باعتباره عتبته، سُلّمه.

والمستقبل ينتظرنا، شئنا أم أبينا، سواء تشبثنا بالماضي، بأيدينا وأرجلنا وما تبقى فينا من وعي أو لا وعي، أو اعتقدنا أن الحاضر هو نهاية كل شيء.

من المؤسف أن قضايا كثيرة أرّقت الإنسان في أماكن كثيرة لم تؤرِّقنا، لم تُقلق راحتنا، البيئة مثلا، من المؤسف أننا نجرُّ اليوم أجمل قيمنا من شَعرها، لنحشرها في نفق التعصب الذي لا ضوء في أوله، ولا ضوء في آخره.

ولعلنا من المرات القليلة في تاريخنا، التي نصبح فيها جزءا من التعصب، ومساهمين في نموه، لا في النّماء، في وقت كان التعصب حكرا على الإمبراطوريات والفاشيات التي لا تغيب عنها الشمس، أو التي لا ترى الشمس أبدا.

ربما تكون هذه بعض الهواجس التي أقلقتني في (حرب الكلب الثانية)، وربما لهذا السبب اكتشفت أنها رواية لا يمكن أن تؤجل.

صحيح أن أحداث الرواية تدور هنا، ولكنها تفترض أن هنا، هو كل هناك، أينما كان، قريبا أو بعيدا، ما دام 
يحدث في الإنسان وللإنسان.

لم أسع لكتابة رواية عن المدينة الراذلة، عكس الفاضلة، كما سمّى البعض هذا النمط من المدن، فالمسألة أعقد بكثير، إنها محاولة لتأمّل رذالة الإنسان اليوميّ، العادي، وأين يمكن أن يمضي به الجشع، ورفض الآخر، والاستعانة بالقوة المباشرة والمختفية فيه لترويض غيره وسحقه، لمجرد أنه مختلف عنه.

لم أفكر برواية على طريقة جورج أورويل، مع أن تلك الرواية الفذة فتحت مجرى واسعا لتأمّل مصير العالم روائيا، حيث السلطة القامعة المسيطرة هي أصل البلاء، بل ذهبتُ إلى منطقة أخرى رأيتُ فيها أن الإنسان نفسه هو البلاء، الإنسان العادي، الإنسان الذي يمكن أن تقول له صباح الخير أمام باب بنايتك، في المصعد، أو في أصغر أو أضخم مكان يمكن أن تشتري منه حاجياتك.

لم يعد باستطاعتنا اليوم أن نقول إننا مسيّرون، ضحايا، لأننا ودون أن ندري تحولنا إلى قنابل موقوتة، قابلة للانفجار في وجه أي آخر، أيا كان.

لم يعد الآخر، اليوم، هو ذلك الذي يقف على الضفة الأخرى من عالمك نقيضا لك في التفكير واللغة والأهداف والمصالح والدّين والعِرق، فقد أصبح الآخر أيضا، هنا، هو ذلك الذي يقف على الضفة نفسها التي تقف عليها، ويجمعكما الدين، والعرق، واللغة والمصلحة والوطن والشارع ومدرسة الأبناء.

أعترف أن كتابة هذه الرواية، طوال العامين الماضيين، كانت قاسية، لأن أجواءها سيطرت عليّ إلى حدّ بعيد، وبدت كتابتها لي، كالإقامة في الجحيم، رغم كل تلك السخرية السوداء التي تطلّ من صفحاتها، والتي كانت تمنحني القليل من الهواء بين حين وآخر.

إنها رواية مختلفة عن المواضيع التي تناولتها من قبل، لكنني أحب أن أختلف، وأحب أن أذهب إلى مساحات جديدة لأختبر عقلي ومخيلتي، ومحصلة ما عشته وقرأته وأحسست به في سنوات عمري الماضية، ولذا فإن هذه الرواية أيضا دعوة للقارئ المؤرَّق بالحاضر، والماضي، لتأمل الكثير من ذلك الذي تأملتْه هذه الرواية.

نحن على قيد الحياة اليوم، لكن الأمر أكثر تعقيدا، إننا نستطيع أن ندّعي بأننا: ما دمنا أحياء اليوم، فإننا، أحياء غدا، أو أن أبناءنا سيكونون أحياء غدا، أو أن هذه الأشجار، أو ما تبقى منها، وهذه الغيوم ستكون على قيد الحياة غدا.

لا أتحدث عنا هنا، فقط، بل أتحدث عن إنسان، أو عن النوع الإنساني على هذا الكوكب، الذي لم يستطع بعد أن يأخذ لا بوصايا السماء ولا بوصايا الأرض، ولم تغيره كل تلك الكتب والفنون والأفكار النيرة، والمكتبات، منذ النقش على الحجر حتى زمن الإنترنت! تلك الإنجازات التي يحوّلها إلى حطب في أقرب فرصة تلوح له.. عن نوع إنساني لم يصل بعد إلى نتيجة أن الحرب دمار، وأن تدمير الأرض فناء له.. ولحسن الحظ، أو لسوئه، تقول آخر الدراسات، أن الحياة على الكواكب الأخرى لن تكون ممكنة، وهي أقل من طموحات تحقّقها، حتى وإن كانت تلك الكواكب صالحة للعيش، لأن المهاجر إلى هناك سيحمل معه كل قيم الدمار التي زرعها في هذا الكوكب الصغير. ففي وقت سيترك هنا خلفه ما تبقى من أشجار، بقايا ماء، بقايا ضحايا غير قادرين على التقاط أنفاسهم وإرواء ظمئهم، سيحرص على أن يملأ حقيبة روحه بكل ما أدى إلى الدمار الذي سيتركه خلفه، سيملأها بالأنانية والجشع وحب السيطرة والاستحواذ، لكنه سيكون فخورا بمركبته الفضائية التي ستحمله إلى هناك، باعتبارها قمة رقيّه. 

في واحد من سطور هذه الرواية، تبرز صرخة: على أحدهم أن يقول لنا ما الذي يريده الإنسان؟
هي صرخة وسؤال صعب، وقد كانت رحلتي الشاقة في محاولتي للإجابة على هذا السؤال، لكنها إجابة ناقصة، وتبقى ناقصة إن لم يُجِبْ عليها أولئك البشر الذين يعيشون خارج صفحاتها، فمَن يعيشون في هذه الصفحات، لهم مهمّات أخرى تختلف عنا، أو الأدقّ، تختلف عما تبقّى منا على قيد إنسانيته، وعقله. 

قدّم الكاتب هذه الشهادة في اللقاء الذي نظّمته له جامعة سواس، لندن، مساء أمس الأربعاء 14 ديسمبر، حول روايته الأخيرة (حرب الكلب الثانية) وروايته (أرواح كليمنجارو).