قضايا وآراء

التوجهات "المرتقبة" لسياسة ترامب الخارجية!

1300x600
دفع فوز مرشح غريب عن المؤسسات السياسية الأمريكية في الانتخابات الرئاسية التي جرت يوم 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016؛ لانطلاق الكثير من التكهنات حول تحول مرتقب في فلسفة السياسة الخارجية الأمريكية وشكل علاقات الولايات المتحدة بالعالم. فبالنسبة لمفكر كبير كعالم الاجتماع الأمريكي فرانسيس فوكوياما؛ فإن فوز ترامب "يمثل نقطة تحول مفصلية ليس فقط بالنسبة للسياسة الأمريكية بل وللنظام العالمي بأسره"، فالعالم اليوم - وفقا لفوكوياما - أصبح يعيش "لحظة تاريخية حاسمة مثل لحظة سقوط جدار برلين في عام 1989".

ولا يبدو أن فوكوياما في طرحه هذا يغرد خارج السرب، فقد انتشرت خلال الأيام القليلة الماضية مئات (وربما آلاف) التحليلات والكتابات لخبراء العلاقات الدولية والسياسة الخارجية الأمريكية؛ التي تتحدث بوضوح عن تحول مرتقب في مسار السياسة الخارجية الأمريكية، سيلقي بظلاله على النظام العالمي ككل. أبرز هذه التحولات في نظر الكثيرين هو انتهاء حقبة استمرت لأكثر من 70 عاما قادت فيها الولايات المتحدة نظاما دوليا ليبراليا، وبداية حقبة دولية جديدة تصعد فيها القوميات الشعبوية في مركز النظام الدولي قبل أطرافه. مثل هذا التحول الكبير سينعكس على جميع القضايا الدولية، فالولايات المتحدة لا تزال القوة العظمى الوحيدة المؤثرة في جميع أنحاء العالم وقضاياه، وسيكون من المهم لأي متابع للشؤون الدولية أو الإقليمية أو المحلية استشراف هذا التحول وتلمس أبعاده.

استشراف أم تخمين؟

"لا تصدقوا أي شخص يدعي معرفة ما سيفعله ترامب، حتى لو كان اسم هذا الشخص هو دونالد ترامب!".. هكذا لخص مدير البحوث في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية جيريمي شابيرو؛ توجهات سياسة الرئيس الأمريكي المنتخب حديثا، دونالد ترامب. فعلى الرغم من تأكيد ترامب عبر الكثير من تصريحاته على مجموعة من الأولويات فيما يخص سياسته الخارجية المرتقبة، كضبط الهجرة غير الشرعية، وتعجيل القضاء على داعش، ومراجعة اتفاقيات التجارة الدولية وتحديث القدرات العسكرية للجيش الأمريكي، إلا أن السمة الأبرز لمواقفه من القضايا الخارجية هي الغموض، وأحيانا التقلب!

هذا الوضع المحيّر لمختصي السياسة الخارجية - وصناع القرار أيضا - ناجم عن عدم وجود أي خبرات عملية سابقة للرئيس المنتخب حديثا في مجال السياسة الخارجية - والسياسة بشكل عام - يمكن القياس عليها. وعلى الرغم من الغموض القائم حول سياسة ترامب الخارجية، إلا أنه من الممكن تقصي الخطوط العامة لتوجهاته القادمة عبر استخلاصها من عشرات الخطابات الجماهيرية والمقابلات الصحفية والمناظرات الرئاسية والكتابات الدعائية، التي تمثل زاد الباحثين والمتابعين إلى حين يستلم الرجل زمام الرئاسة في للبيت الأبيض. حينها فقط يتضح لنا جميعا إن كان هذا المقال وأمثاله استشرافا صحيحا أو مجرد تخمين!

توجهات السياسة الخارجية للرئيس ترامب

من الممكن تتبع الخطوط العامة لتوجهات الرئيس ترامب على صعيد السياسة الخارجية، وأهمها ما يلي:

1. انتهاج تفسير واقعي كلاسيكي للسياسة الخارجية يعلي من قيمة القوة، وخصوصا القوة الصلبة، ويتجلى هذا النهج بوضوح في أحاديث ترامب الكثيرة عن تحديث بنية وسلاح الجيش الأمريكي وتطويره؛ ليصبح أقوى جيش في تاريخ الولايات المتحدة، فالسياسة الخارجية الناجحة - وفقا لترامب - تبدأ بوجود جيش قوي حاسم.

2. اعتماد تفسير ضيق لمفهوم "المصالح القومية الأمريكية" يعطي الأولوية لكل ما يمكن أن يخدم الأمن والاقتصاد الأمريكيين بشكل مباشر، ويخفض من أولوية بعض الاستراتيجيات الأمريكية التقليدية، كالحفاظ على نظام دولي ليبرالي ونشر القيم الديمقراطية، والعمل عبر المؤسسات الدولية ،والانخراط في اتفاقيات التجارة الدولية وغيرها من السياسات المتوارثة.

ويُبنى على هذا الفهم الضيق للمصالح القومية؛ توجه ترامب للقيام بتحركات أحادية الجانب (Unilateral) في بعض القضايا الدولية، كمحاربة الإرهاب والتجارة الدولية. ويمثل هذا النهج المحتمل انقلابا بيّنا على سياسة أوباما الخارجية، فعلى مدى سنوات حكم أوباما الثمانية؛ سعت الولايات المتحدة لإعادة هيبة ومكانة المؤسسات الدولية التي كان بوش قد تجاهلها. هذا النهج قد يتغير إن تم البناء على خطاب ترامب الإعلامي الذي يوحي بالنزوع لتجاهل النظام الدولي ومؤسساته المختلفة، وتفضيل تفسير واقعي أكثر كلاسيكية لعلاقات الولايات المتحدة بالعالم (تؤمن الواقعية الكلاسيكية مثلا بأن النظام العالمي فوضوي بطبعه ولا يضبطه شيء، وعلى جميع الدول أن تسعى لحماية نفسها بنفسها، كما تؤمن بأن المؤسسات الدولية هي مجرد أدوات بأيدي الدول تستخدمها حين تحتاج لذلك).

هذا التفسير الضيق للمصالح القومية الأمريكية سيعني أيضا أن إدارة ترامب لن تولي مسألة انتهاك حقوق الإنسان في دول العالم الثالث أية أهمية تذكر؛ طالما أن ذلك لا يمس الأمن القومي الأمريكي بشكل مباشر. فبالنسبة لترامب لا بأس من العمل مع نظام الاسد لمواجهة داعش، ولا مانع من تجاهل قضايا ظلت حاضرة على الأجندة الأمريكية لسنين، كقضية التبت، مقابل تحقيق مكاسب تجارية في العلاقة مع الصين.

3. انتهاج الحكمة الاقتصادية القائلة: "لا توجد وجبة غداء مجانية!" (There ain't no such thing as a free lunch!) في علاقة الولايات المتحده مع حلفائها وخصومها على حد سواء. فعلى سبيل المثال، يرى ترامب أنه يتوجب على الدول التي تحظى بالحماية العسكرية الأمريكية، كاليابان وكوريا الجنوبيه والسعودية وألمانيا، أن تدفع مقابل خدمة الحماية الأمريكية!

هذا التوجه الجديد يخالف بشكل فج قواعد الدبلوماسية الأمريكية المتوارثة؛ التي تعلي من قيمة الثقة المتبادلة مع الحلفاء، وسيدفع - على الأغلب - هذه الدول المزيد من التسلح والاعتماد على الذات، مما سيعني بالضرورة انطلاق سباقات تسلح في كل مناطق العالم. فلا الصين أو كوريا الشمالية ستنظر بعين الرضا لزيادة التسلح الياباني، ولا إيران أو إسرائيل سترحب بمشروع نووي سعودي، ولا أوروبا أو روسيا ستطمئن لتصاعد الانفاق العسكري الألماني.

4. عدم تفضيل التدخل العسكري المباشر خارج حدود الولايات المتحدة، إلا في حال وجود تهديد مباشر للأمن القومي الأمريكي. وفي مثل هذه الحالة، فإن التدخل يجب أن يكون سريعا وحاسما وغير متوقع.

من المعروف أن ترامب عارض الغزو الأمريكي للعراق، لكن معارضته تلك لم تكن لدوافع أخلاقية مجردة، ويؤكد ذلك حديثه عن ضرورة أن تسيطر الولايات المتحدة على النفط العراقي لتعويض تكاليف تلك الحرب. وترامب - في منطقه هذا - يسير وفقا للمثل القائل: "إذا سرقت، فاسرق جملا!". لذا فليس من المستبعد تماما حدوث تدخل أمريكي عسكري مباشر في بعض الحالات الاستثنائية، كحالة داعش، حيث يقترح ترامب في كتابه "أمريكا العرجاء" بخصوصها؛ أن تقوم الولايات المتحده بتدخل سريع يتم فيه القضاء على جميع أعضاء التنظيم الذين يقدرهم الخبراء الأمريكيون بحوالي 30 إلى 50 ألف شخص!

وبشكل عام، فقد لا يكون توجه ترامب المعلن هو إحياء سياسة "الانعزال" الأمريكية القديمة، إلا أن استقراء أفكار الرجل وخطابه الإعلامي يوحي بأنه سيسير بهذا المسار ولو بشكل جزئي. فتصريح من قبيل أن "الولايات المتحدة أضاعت الـ 15 سنة الماضية بالتدخل في الشرق الأوسط بينما كان يسعها إهمال المنطقة"؛ يعني أن سياسة الانخراط الأمريكي المباشر بالصراعات الدولية المختلفة قد تكون بدأت بالانحسار.

5. الغموض في اتخاذ القرارات وصناعة السياسات بغرض حرمان الخصوم من القدرة على توقع التحركات الأمريكية.

يدرك المدقق في نظرة ترامب للسياسة الخارجية؛ أن الرجل ينظر إليها كسلسلة من الصفقات التجارية التي يلزم لتحقيق النجاح في مفاوضاتها الحفاظ على سرية المعلومات والتوجهات لاتخاذ قرارات حاسمة وقوية. ويضرب ترامب في كتابه الدعائي الصادر عام 2015 "أمريكا العرجاء وكيف نجعلها عظيمة من جديد"؛ مثالا -على منهجيته في التعاطي مع السياسة كسلسلة من الصفقات - مستقى من خبرته التجارية الطويلة، حيث أنه حين قرر في مرحلة ما بناء أحد أبراجه في لوس أنجلوس، بدأ بشراء المباني في المنطقه المرغوبة بسرية عالية، كي يمنع أصحاب الأملاك من رفع السعر ومساومته عليه في حال علموا بنيته بناء ذلك البرج في موقع أملاكهم، ثم بعد حيازته للمساحة المطلوبة لقيام المشروع أعلن عنه ونفذه بسرعة وحزم. ويعج كتاب ترامب آنف الذكر بالأمثلة المتأثرة بخبرته التجارية الطويلة كواحد من أبرز رجال الاعمال في الولايات المتحده والعالم.

شخصية ترامب

لعل أبرز الإشكاليات التي سيواجهها الساسة الأمريكيون العاملون مع ترامب؛ هي اعتداد الرجل برأيه رغم جهله بالقضايا الدولية! فقد صرح في إحدى المقابلات الصحفية مطلع هذا العام - عند سؤاله عمن هم مستشاروه في السياسة الخارجية - بأنه "هو مستشار نفسه الأول!". مثل هذا التصريح - وعلى شاكلته الكثير من التصريحات - يظهر القدر العالي من النرجسية التي يتحلى بها الرجل. وفي حال أضيفت هذه النرجسية إلى انعدام الخبرة في مجال السياسة الخارجية، فإن الرجل سيكون على الأغلب في مواجهة مباشرة مع آلاف الدبلوماسيين المحترفين الذين يصنعون سياسة واشنطن الخارجية وينفذونها. ولا شك في أن صراعا حقيقيا على النفوذ سينشب بين الرجل والمؤسسة الأمريكية الحاكمة، سواء في إطار الحزب الجمهوري (وقد بدأ ذلك منذ ترشحه للرئاسة وظهور حركة "إلا ترامب" Never Trump الجمهورية المعارضة له) أو في داخل أروقة البيت الأبيض ووزارتي الخارجية والدفاع. هذا الصراع سيعني أن المؤسسة الحاكمة ستعرقل بعض سياسات ترامب الخارجية المرتقبة، بينما سيحاول هو إعادة تشكيل دوائر صناعة القرار و"ينظف" مؤسسة الحكم من الكثير من الخصوم.

وختاما، فإن طبيعة شخصية ترامب غير التقليدية والطريقة التي وصل فيها إلى الحكم (من خارج المؤسسات الحزبية التقليدية) قد يدفعان الباحثين وخبراء السياسة الخارجية لاستبدال علم النفس بعلوم السياسة والاستراتيجيا والجيوبوليتيك، من أجل سبر أغوار شخصية هذا الرجل ومحاولة استشراف سياساته المرتقبة، ولن يكون هذا الأمر سهلا بكل تأكيد!