كتاب عربي 21

فضائية الجزيرة: شاخ عنترة أيها الربع

1300x600
قبل أن نتحدث عن جلوس عنترة في صدر هذا المقال عنوانا، وعن رواية هيمنجواي "الشيخ والبحر"، تعالوا نضع عشرين شمعة في السبانخ، الطعام الذي جعل لباباي عضلات حديدية، والجزيرة الأولى في العالم العربي، والفضائية الأكثر شهداء في التاريخ، وهدفا لأمريكا وروسيا في أفغانستان والعراق وسوريا..  والمطلوب رقم واحد في هذ الكوكب المدحي المدور الذي يراد له أن يصير مربعا من خمسة أضلاع هي أضلاع مجلس الأمن.

ذكر كثيرون في مناسبة احتفال الجزيرة بعيد بلوغها سنَّ العشرين الإذاعة البريطانية، من المعلوم أن الجزيرة ساقت مركبتها بربابنة بي بي سي البريطانية، وعادوا عرباً بفضلها، لكن يجب أن نقرَّ -وقد مرَّ أسبوعان على عيد السبانخ العشرين- أنّ هوية الجزيرة معرضة للخطر، شأنها شأن أمٍ قررت أن تلبس تنورة ابنتها القصيرة، ومعلوم أنّ الفضائيات العربية المهمة ولدت من بيض وضعه طائر الوقواق في عشِّ الجزيرة فرقدت عليها، إنهم مذيعون انشقوا عنها، وعارضوها بعد الربيع العربي.

"حقٌ على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه"، وهذا حال الدنيا، فقد كانت مجلة العربي الكويتية واحدة من أفضل المجلات يوماً، وكنا ننتظرها بفارغ الصبر، بل إن بعض ضيوف الجزيرة صاروا أصحاب برامج في فضائيات انشقت عنها، وكان منهم ضيف متهور، معارض للحكومات العربية كلها، كأنه شرب حليب السباع، وكان يخاطب فيصل القاسم بودِّ الصحبة والعائلة: أبا أصيل! وهو الآن يمسك سبحة، ويزور قبر الأسد بوصفه محرر الجولان وفاتح أذربيجان... والمذيع يضع تحت اسمه لقب المفكر فلان بن علان، فاقعد، فأنت الطاعم الكاسي، الشارب من الطاس.

تغيّرت هوية الجزيرة اللونية فازداد الأبيض وقلّ الأحمر، وصارت "أفاتارية" اللون، وكان الخبر العاجل قد صوحب قبل فترة برموز تنبيه، لكن الفضائيات العربية التي ولدت لمكاسرتها والكيد لها أكثر براعة في التشكيل اللوني والماكياج والغندرة، وكنت أطمح لفضائية عربية، أو لصحيفة عربية إلكترونية تستخدم الخط العربي في عناوينها، حتى لو كان خط الرقعة كما في شارة الجزيرة بالخط الديواني الجلي، لكن الفضائيات تميل إلى الخطوط السهلة، مهما يكن فإن الفضائيات جميعها مهددة بقرون الأنترنت اللينة، وبوسائل الاتصال الاجتماعي، التي باتت مصدراً للخبر.

إن هذه الوسائل تسبق الفضائيات بعدة أيام التي تتأخر حتى تتأكد من صحة الخبر أو الواقعة، ولهذا رأينا كثيراً من فقرات برنامج الجزيرة الجديد "فوق السلطة" قديمة، وهو واحد من أكثر برامج الجزيرة التي طرحتها على طاولة البوكر في قمار البرامج، لكنه يبدو رصيناً، ومقلداً لبرامج معروفة، ومتأخراً عن برنامج "جو شو" وأقلُّ شجاعة من "DNA" لنديم قطيش، "فجو شو" يفوقه في براعة التعليق والطرفة والغرافيك والمؤثرات البصرية.. وإن كان معدُّ البرنامج صاحب براعة في البيان والسجع، وهذا يشبه حال شيخ وقور نزل إلى السيرك ليقدم فقرة في بهلوانيات المرح، وهو يرتدي الزي الرسمي! في البرنامج فقرات وسطورٌ مهدورة، كان يمكن ملؤها بالموسيقا والمؤثرات الصوتية الساخرة أو بالصورة أو بالتعليق اللفظي المرح.

توقف الشريعة والحياة منذ سنوات، والأغلب أنَّ برنامج "الاتجاه المعاكس" سيستمر، وكان يوماً سيد البرامج الشعبية، ينتظره الناس ليسمعوا كلمة من ضيف متهور، أو منتحر، عن نظامه الدكتاتوري، وكان في بداياته يقدم المعرفة والمعلومة، وعرَّفنا بشخصيات وقامات فكرية، ثم تحول إلى مرحلة النكاية في عصر سقوط الأقنعة، وغياب الحياء الإعلامي، والإعلام الفتوة، فرأينا فيصل القاسم يقول للطاعم الكاسي، الشارب بالطاس: إذا شتمك أحد، وقال لك (بدي ألعن أمك.. يا ابن الستين ألف حمار.. يا ابن الصرماية) ألا تضربه يا حمار؟ فما بالك بشخص يسيء إلى مقدساتك..) ويخشى على البرنامج من الشيخوخة، ويحتاج إلى زرع شعر، أو مساحيق تجميل فتنضيب اليورانيوم ممنوع عربياً ودولياً.

وكذلك برنامج "بلا حدود" الذي استغرب كثير من المتابعين أن يكون مدير احتفال عيد السبانخ العشرين هو سائق البرنامج، فلم تقع جريمة حتى يأتي ليطرح أسئلة بوليسية ويحقق فيها؟! فهي حفلة يا ناس، ولاحظ كثيرون المشاكسة التي وقعت بينه وبين ياسر أبو هلالة، وقالوا: الله يستر! وذكرني بموقعة ألمانيا الظريفة، وكانت موقعة ألمانيا قد ذكرتني بتوفيق عكاشة وقلت: البانجو له أشكال، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام عن أبي دجانة: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن.

التلفزيون يتعرض للموت البطيء، والزمان صار ضيقاً وأمسى متقاربا، فاليوم لم يعد أربعا وعشرين ساعة، إنه أقل بكثير، وتلك من علامات الساعة، ونسب المشاهدة التلفزيونية تنخفض بسيولة المعلومات، ومستوى ماء البحر يرتفع بالصوبا الحرارية، لكن من الواضح أنّ معدي الجزيرة المتصابية قتلوا برنامجي المفضل "الحصاد"، الذي كنت أتابع فيه معظم أحداث اليوم، وصار حصاداً لمحاصيل معينة: البطيخ، العجور، القثاء، وجعلوه مثل برنامج الواقع العربي.

وكنت استمتع كثيراً ببرنامج "في الميزان" في الشأن المصري، الذي قضى في حادث سير مؤلم، فمصر تستحق ساعة خاصة في الأسبوع كما في كل الفضائيات العربية، الحدث السوري يتأخر ويتهمش، والمعدون في الجزيرة باتوا مثل الفضائيات الأخرى يهتمون بالبرامج الصباحية، فالقتل صار عاديا والحياة يجب أن تستمر كما كانت أيام الدكتاتوريات العربية مع زيادة الحلويات وبرنامج الطبخ فأهل الضحايا يحتاجون للتسلية والصبر والسلوان والحلوان.

أما برامج الجزيرة التحقيقية الجديدة لمراسليها السابقين (تامر المسحال وسلام هنداوي وعبد الله الشامي) فهي مغامرات تشرِّد المشاهد عن الربيع العربي إلى التحقيقات من الدرجة الثانية،  كأنها تعتذر عن الربيع العربي، وهي دون برامج يسري فودة، مهما يكن فإن قياس الجودة لا يقاس بفضائل الرسالة وإنما بالشعبية، والشعوب يعبث بمزاجها وذائقتها كما يعبث بالخرائط والعقول، فباتت تحبُّ الأطعمة البصرية السريعة "التيك أوي"، وقد ضاعت الأصالة وكنت أودُّ لو استمرت الجزيرة على برامجها السابقة في الإبقاء على باب الضروريات وإدخال نوافذ في باب التحسينات، يقول المثل إذا نبتت لحية ابنك أحلق لحيتك، لكن أن تضع أحمر شفاه، فتلك لعمري قاصمة الظهر، يعني كأن تصدر  الجزيرة "الجزيرة سَمَا"، أو" الجزيرة دنيا"،  أو "الجزيرة كوميدي"، أليس فيكم رجل رشيد؟

جاتكو البلاوي.

وكما نزحت من وطني الأرض، نزحت نزوحاً كاملاً من الجزيرة الفضاء إلى منفى الجزيرة الوثائقية، أتابع بشغف قصة حب بين سلحفين؛ سلحف ذكر وسلحف أنثى، وقع السلحف في حب السلحفاة، مع إنها محجبة ومنقبة بحجاب من الكيتين المدرع، ولاحقها السلحف العاشق ستة أسابيع وهو يقرأ عليها قصائد الغزل ويتحرش بها؛ يا حلو، ويا قمر، ويا قطة.. فرضيت وخضعت له، ثم شفّرت الجزيرة لحظة الوصال، ما هكذا تورد الإبل والسلاحف يا جزيرة؟ إنهما صندوقان يا ناس؟

الجزيرة على الأغلب ستنسى مشيتها حالها حال الغراب الذي قلّد الحمامة وأتقنها فضحكت عليه الحيوانات، ونسي مشيته الأولى فصار حاله هذا الحال.

وكان سليم بركات في "سيرة الصبا" قد روى قصة عرض فيلم عنترة بن شداد في الجزيرة السورية، فتوافد البدو على الفيلم بكثافة، فمدِّد عرض الفيلم صيفاً كاملاً وبعضاً من أيام الخريف، إلى أن ملّ البدو من البطل العربي الأسود القوي عاشق الحرية، فصاح منهم واحد في لحظة اكتشاف متأخر: "شاخ عنترة يا أخوان، هو لا يصرخ جيدا، هذه السنة".

الشيخوخة سنّة من سننن الله في خلقه ومخلوقاته، وسبحان من له الثبات والدوام، وأتذكر بعبرة وتحمم، كيف اصطاد شيخ هيمنجواي حوتاً كبير، وكيف أسقطت الجزيرة خمسة من أعتى الدكتاتوريات العربية، ثم عادت هذا الدكتاتوريات أقوى مما كانت، وارتكبت المذابح الديلفري، التي لم ترتكب يوما في التاريخ، ومن المعلوم أنّ الشيخ في الرواية الشهيرة استطاع صيد الحوت وحده، لكنه عندما وصل إلى الشاطئ وجد هيكلا عظميا..

فقد كانت الأسماك الصغيرة قد... التهمته.