قضايا وآراء

الأردن والاستهتار بخيارات المستقبل

1300x600
أن تبني دولة عربية سياستها الخارجية على استبعاد خيار المواجهة مع الاحتلال الصهيوني اليوم، وفي المستقبل، لم يعد أمرا جديدا أو محل مفاجأة واستغراب، فالهزيمة العميقة الممتدة من الحرب العالمية الأولى إلى حرب 1948، ثم الهزيمة النكراء للنظام الرسمي العربي مجتمعا بـ"تقدمييه" و"رجعييه" عام 1967، أسست لفكرة اعتبار المواجهة مع الدولة الصهيونية ضربا من المستحيل، وإلى إعادة تعريف "المصلحة الوطنية" لمعظم دول الطوق على أنها تجنب المواجهة مع إسرائيل بأي ثمن، وجاء عصر أمريكا قطبا أوحد للعالم، لينقل النظام الرسمي العربي من حالة "عدم استعداء" إسرائيل خوفا من النتائج، إلى مرحلة "استرضاء" إسرائيل طلبا للرضى الأمريكي، واتخاذ ضمان أمنها وسلامتها وتحقيق مصالحها مدخلا لمدّ الغطاء الأمريكي على النظام الرسمي العربي في مرحلة لا غطاء فيها إلا أمريكا، أو هكذا قرأتها القيادات السياسية لتلك الدول.

يوم أمس كشفت الصحافة الصهيونية عن إبرام الأردن رسميا لصفقة غاز تمتد لـ15 عاما، وبمبلغ 10 مليارات دولار، لتؤشر إلى انتقال جديد من حالة اتخاذ رضى الصهاينة مدخلا لرضى قطب العالم الأوحد إلى مرحلة "الاستظلال بإسرائيل" من حمم الإقليم الملتهبة، لقد انتقل الأردن بذلك من النظر إلى إسرائيل مدخلا للقطب الدولي إلى رؤيتها قطبا إقليميا يُستظل به لذاته، وهذه القراءة يؤيدها تراجع الدور الأمريكي النسبي والمستمر، والذي لا يسوغ موضوعيا التقدم للأمام في استرضاء الولايات المتحدة في ظل احتمالية انبثاق أقطاب دولية مؤثرة، مثل روسيا التي اضطر الأردن إلى التفاهم معها في حدوده الشمالية.

 من الممكن للمرء أن يقرر مسبقا أنه سيتجنب خيارا ما، وإن سلّمنا جدلا بإمكان أن يقرر تجنب مواجهة إسرائيل بأي ثمن، فهل يستطيع أن يضمن أن تتجنب هي مواجهته؟ هل يستطيع أن يضمن أنها لن تسعى إلى تحقيق مصالحها على حساب مصالحه؟ قضيتان مرشحتان للتقدم إلى الواجهة على مدى السنوات الخمس القادمة:

الأولى هي تقسيم المسجد الأقصى المبارك تمهيدا لتهويده، وهي قضية تفرض نفسها على الأجندة الأردنية بإلحاح على مدى السنة الماضية؛ وإذا كان الأردن رفض مبدئيا قبول التقسيم والشراكة في المسجد زمانيا أو مكانيا على لسان الملك عبد الله الثاني، ففي ضوء تقدم أجندة المعبد اليهودية إلى مركز صناعة القرار الصهيوني يبقى السؤال المشروع: بعد اعتماد الأردن على الدولة الصهيونية في الطاقة عبر صفقة الغاز، واعتماد الأردن عليها في قسط من المياه والطاقة عبر ناقل البحرين، وتكثيف التعاون الاقتصادي والأمني بين الدولتين، فهل سيبقى الأردن قادرا على قول "لا" في موضوع المسجد الأقصى؟ أم أنه سيكون مضطرا إلى الاشتراك في صيغة لتقسيمه، أو لتمرير التقسيم وكأنه أمر مفروض دونما رد حقيقي منه؟ وإذا كان الأمر كذلك ألا يغدو التوقيع على صفقة الغاز توقيعا مبدئيا على تمرير تقسيم المسجد الأقصى؟ ترى هل يقدّر صانع القرار الأردني حجم المغامرة التي يقبل عليها؟ وهل يتحمل النظام السياسي الأردني مثل هذه المغامرة في بيئة كهذه ؟

أما الثانية فهي انفجار العنصر الديمغرافي في الصراع مع الصهاينة: فالعام 2016 شهد تساويا لأعداد اليهود والفلسطينيين داخل فلسطين التاريخية، بل بزيادة قدرها 30 ألفا للفلسطينيين، بينما تقدر الدراسات الإحصائية أن عدد الفلسطينيين سيفوق اليهود بنحو 300 ألف نسمة بحلول عام 2020. هذا الهاجس الديمغرافي هو الذي جاء بفكرة يهودية الدولة إلى واجهة الفكر السياسي الصهيوني، وأمام هذا الهاجس لا تبدو الحلول الإسرائيلية واسعة: تركيز السكان في مراكز مدنية محاصرة في الضفة، ودفع السكان إلى الحدود الشرقية بالقوة. هذه خيارات لم نخترعها، بل هي تتداول اليوم في الأوساط الأكاديمية الصهيونية، وفي الأوساط السياسية كذلك على لسان حزبين شريكين في الحكومة:

 إسرائيل بيتنا بقيادة ليبرمان، والبيت اليهودي بقيادة بينيت. لا يستطيع صانع القرار الأردني أن يغمض عينيه عن هذه الحقيقة، فهذه ليست تكهنات، بل مواقف معلنة ضمنا وصراحة، تدفع لها وقائع موضوعية واضحة؛ فإذا ما بات معتمدا على الاحتلال في كهربائه ومائه وأمنه واقتصاده هل سيكون قادرا على رفض موجة من التهجير إن حصلت؟ وهل سيكون أبقى لنفسه من خيارات مستقبلية لمواجهتها؟ أم ستُفرض عليه كأمر واقع بما تستبطنه من أخطار قد تعصف ببنية النظام السياسي الأردني برمته؟

يتغنى صناع القرار الأردنيون بأنهم استطاعوا تجاوز مرحلة الثورات العربية وتجاوز العاصفة الحالية على مدى ست سنوات مضت، وهذا صحيح، إلا أن الواضح أن إدارة القرار ما تزال تعتمد على التكتيك وإدارة المرحلة، فتنظر إلى توفير الفوائض المباشرة وخفض عجز الميزانية كأهداف عليا، فهل هذا تفوق في النظرة الاستراتيجية أم هو مجرّد تفوق نسبي في التكتيك؟ ما يقترحه غياب الرؤية في صفقة الغاز والاستعداد الطفولي الفرح لنقل أزمة مواجهة إسرائيل إلى الداخل الأردني لا يبشر بخير.