كتاب عربي 21

مبادرة بلاد بره!

1300x600
هل تستحق "مبادرة واشنطن"، أن تخرج البنت وأمها، كناية عن الاحتشاد، لإعلان رفضها، في يوم بدا فيه من شاركوا في إطلاقها في طريقهم إلى القاهرة لاستلام الحكم، فكان لابد من ضجة تلفت الانتباه لحرق الأرض من تحت أقدامهم على نحو يمنعهم من الحكم، بدعوة جماهير الأمة لرفض مبادرتهم والتصدي لهم؟!

لم أكن أعرف شيئاً عن "مبادرة واشنطن"، إلا عندما ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بالهجوم عليها، فذهبت أجمع معلومات عنها، والوقوف على من شاركوا فيها، فإذا هم بضعة أشخاص، عقدوا ورشة عمل في واشنطن، مثل الكثير من "الورش" التي تعقد في هذا الصدد، سواء في واشنطن أو غيرها، ومن تيارات شتى، يمارس المشاركون فيها ما يسمي بالعصف الذهني، من أجل مناقشة قضية الثورة المصرية. ربما الجديد في هذه المرة، أن الورشة خرجت بوثيقة، لا نعلم إن كان مقدراً لها ابتداء أن تظل شأناً خاصاً بمن شاركوا فيها، أما أنها كانت معدة للنشر، فما نعلمه أن أحد المشاركين في الورشة هو من سربها لوسائل الإعلام، مدفوعا بالغرض الذي هو مرض، بدليل أن ما تم تسريبه لم يكن سوى "مسودة"، جرى النقاش حولها، وتعديل بعض بنودها، لاسيما البند (خامساً) الذي تم توظيفه قبل التعديل من أجل حشد الأمة لمواجهة المبادرة، التي تنص على التنازل عن "هوية مصر الإسلامية"!

اللافت أن "مبادرة واشنطن" ليست وحدها التي تعرضت للهجوم، فهناك من يعتبرون كل صيحة عليهم، وكل وجهة نظر مخالفة لهم إنما هى مؤامرة كبرى، وكل اجتماع ليس تحت مظلة "جماعة الإخوان"، أو أحد الكيانات التي أنشأتها، ومن "التحالف" إلى "المجلس الثوري"، يندرج تحت عنوان "الخيانة الوطنية"، وقد شاهدنا كيف نفروا خفافا وثقالاً، وغدوا خماصاً وبطاناً، للطعن في "الذمة الوطنية" للنائب محمد العمدة، لأنه طرح مبادرة للمصالحة، عقب خروجه من السجن، وكان من الواضح أنه ليس ملماً بتفاصيل الوضع الراهن، فانطلق من طيبة قلب يتحلى بها، فإذا بأصوات تخونه، وتعلن أنه أفرج عنه بمقتضى صفقة، حتى يتبنى المصالحة مع النظام الانقلابي، وكأن السيسي لا ينام الليل بحثاً عن من يتبنى المصالحة معه!

لقد تفهم "محمد العمدة" المشهد سريعاً وتراجع عن مبادرته وعاد صوتاً قوياً ضد الانقلاب، وقد دفع الثمن باعتقاله، ولا يزال يدفعه باعتقال شقيقه الذي أُخذ بسببه، وكل هذا لم يشفع له عند مناضلي الفيس بوك!

هناك حساسية لدى البعض من أي تصور للخروج من نفق الانقلاب المظلم، لا يضع شرعية الرئيس محمد مرسي على رأس مطالبه، وإن شئت الدقة فإن الحساسية من أي محفل لا يتم بدعوة من جماعة الإخوان، فهناك خوف من أي تحرك لا يكون تحت رايتهم، فهم لم يعودوا الآن كما كانوا بعد الانقلاب وفي مرحلة الحراك الشعبي رمانة الميزان، وبيدهم حل "عقدة" الاحتقان الشعبي، فقد انشغلوا بالداخل الإخواني في وقت بدت فيه المعارضة ضد السيسي تتسع وتشمل قطاعات وتيارات أخرى بعضها كان يتوسم فيه خيراً إلى أن خذلها، فخرجت تطالب بإسقاطه، ويخشون أن يتحرك القطار بدونهم!

في الهبة التي تشهدها الساحة الآن قيل إن مبادرة واشنطن تجرد مرسي من شرعيته، وأنها تمثل تنازلاً عن الهوية الإسلامية، ووصل الحال بالبعض إلى حد الإعلان عن أنها محاولة لتعويم الانقلاب، وخرجت السيدة "عزة الجرف" من صمتها وأعلنت أن مبادرة واشنطن خيانة لهوية مصر الإسلامية، وكذلك فعل الصحفي "بدر محمد بدر"، وهو المعين من قبل فصيل محمود عزت نائب المرشد العام للجماعة رئيساً للمكتب الإداري للإخوان في منطقة السادس من أكتوبر، بعد أن قامت قوات الأمن بتصفية رئيس المكتب السابق ضمن آخرين!

وهناك تصور لدى فريق رفض المبادرة، إلى أن الإخوان لم يكونوا طرفاً فيها، ودفع بهم إلى الاعتقاد بأن الوزير السابق الدكتور عمرو دراج كان من بين المشاركين، فيأتي تسفيه المبادرة وأصحابها ضمن أوراق المعركة بين المتصارعين على القيادة داخل الجماعة!

لم يشارك الدكتور دراج، ورد على اتهامه بالمشاركة بتخوين المبادرة، وهناك من يقول بأن ما نشرته بعض المواقع عن تخوينه لمن شاركوا جاء محرفاً، فهو خون من اتهموه بالمشاركة.

ولولا الاستعجال في رد الفعل لعلم من هبوا لرفض المبادرة بأن ممثلا عن الجماعة كان حاضرا ومشاركا وهو الدكتور عبد الموجود الدرديري، المتحدث باسم لجنة العلاقات الخارجية بحزب الحرية والعدالة، وهو الأقرب لجناح محمود عزت، ولهذا يمكن تفهم العنف اللفظي للدكتور عمرو دراج، والذي وصل إلى حد إلقاء اتهام الخيانة على قارعة الطريق، وبشكل يخالف تماما طبيعة شخصيته.

العجلة في ردة الفعل ترجع إلى إعطاء المبادرة أكبر من حجمها، فلأنها انعقدت في واشنطن، فالمعنى أنها تمت تحت رعاية الأمريكان أنفسهم، وعلى نحو سيمكن من شاركوا فيها من استلام السلطة والحكم، ليخرج غيرهم من المولد بلا حمص، وهى عقدة "بلاد بره "عند المصري القديم لا تزال تحكم سلوك البعض إلى الآن، فاجتماع انعقد في واشنطن رأساً يؤكد أنه جاد، وهي العقدة التي كانت وراء التصورات المبالغ فيها لإعلام السيسي وحاشيته من مبادرة الفريق الرئاسي التي طرحها "عصام حجي"، والهلع الذي أصاب القوم مرده إلى أنها طرحت من واشنطن ومن "بلاد بره"، ومن أحد الأشخاص الذين يعملون في وكالة "ناسا" الأمريكية!

اللافت أن المبادرة الأخيرة سفهت مبادرة حجي، مع أن المبادرتين طرحتا من واشنطن، ولو استدعينا نظرية المؤامرة، فربما وجدنا هناك من يقول أن الخلاف راجع إلى الصراع بين البيت الأبيض والبنتاجون، وهو مستنقع لو دخلنا فيه فلن نخرج أبداً.

مع أن المسألة أبسط مما يتخيل البعض، فهذه المبادرة أو تلك ليست أكثر من التفكير بصوت مسموع، و"عصام حجي" لم تكن لديه مبادرة مكتملة، فقد نقل إليه تصور من بعض أصدقائه؛ هو مجرد فكرة، فلما وجد نفسه أمام مذيعة "تلفزيون العربي" وقد تعاملت مع وجوده في استوديوهات القناة في لندن باعتباره فتحاً مبيناً، ومجداً مهنياً غير مسبوق، كان لابد من أن يمدها بقنبلة سياسية تليق بمن يعيش في "بلاد بره" وممن كان يشغل منصب المستشار السياسي للمؤقت "عدلي منصور"، كلام كثير كان يمكن أن يتطرق إليه الحوار مع حجي، باعتباره "شاهد رؤية" في فترة مهمة من تاريخ الانقلاب، لكن مذيعة "تلفزيون العربي" أبهرها هذا السبق الإعلامي ومن ثم قررت التعامل مع ضيفها باعتباره "فلتة" في عالم السياسة، و"شاهد رأي"، وفي اليوم التالي انطلق نفس البرنامج ليناقش مبادرة عصام حجي مع ضيوفها والنفخ فيها، لكن عندما جاء يزيد الناس وضوحاً، كشف عن القصور في الموضوع، ففكرة الفريق الرئاسي لا تعني أنهم سينافسون على انتخابات الرئاسة في 2018، وإنما سيكون الفريق الرئاسي جاهزا للعمل مع أي رئيس يطلب منه ذلك، عندئذ آن للقارئ أن يمد قدميه!

ولم يكن إعلام السيسي فقط هو من هاجم حجي، فقد تلقي هجوماً مضاعفا من تيار رفض الانقلاب، لتعامل مع مبادرته بجدية، فلأنها انطلقت من "بلاد بره"، فالمعنى أنه يتحرك باتفاق مع الأمريكيين لتنصيبه هو أو فريقه في الحكم بديلاً للسيسي، وهنا قيل يا داهية دقي، لأنه خيار ثالث يستبعد فكرة عودة الرئيس مرسي للحكم ويجرده من شرعيته!

أصحاب المبادرة الأخيرة أكثر نضجا من عصام حجي، لكن هذا لا يغير من طبيعة الأمور شيئا، فمبادرتهم كما قلنا هى مجرد تفكير بصوت مسموع، ومن اللافت أن تواجه بهجوم يعني أن من يوجهونه يعطونها أكبر من حجمها، والبعض انطلق في هجومه مشغولاً بشرعية الرئيس، والبعض الآخر انطلق من خوفه على الهوية الإسلامية، مع أن ممن شاركوا فيها من لا يمكن لأحد أن يزايد علي موقفهم ضد الانقلاب أو تأييدهم لشرعية الرئيس المنتخب، وأعنى بهذا الحركة التي استضافت الجمع في واشنطن وهى حركة "غربة" ومنسقها العام الأستاذ "شوبير"!

وإذا كانت المبادرة قد ضمت آخرين من حركة السادس من أبريل مثلاً، فلنا أن نعلم أنهم يعبرون عن فريق من رافضي الانقلاب، ليسوا مع عودة الرئيس مرسي للحكم، وإذا كنت أنسب لنفسي مقولة "مرسي عنوان الشرعية"، فإنني أتفهم وجود هذا التيار، وبعض من انقلبوا على السيسي مؤخراً، لا يمكن أن يتصوروا أنه يجمعهم بالإخوان ميدان واحد، وهم بالخلاف مع مجموعة واشنطن الذين هم مع وحدة الصف الثوري في مواجهة الانقلاب ولكن ليس من أجل عودة الرئيس. ومنذ البداية، وعندما كان من بين الإخوان من هو مشغول بعودة الثوار أمة واحدة، كان رأيي إنه لا يؤمن من قومك إلا من قد آمن، وذلك فيما يختص بشرعة الرئيس. وفي مواجهة الدعوة للاصطفاف؛ قلت إن هذا لا ينبغي أن يكون في المكاتب، وإنما في الميادين، فعندما يخرج الثوار للشارع سيكون بإمكانهم صياغة عقد ثوري جديد.

ولا يمكنني إنكار أن صف الشرعية نقص ولم يزد، فهناك من خرجوا معنا دفاعاً عن شرعية الرئيس، الآن صاروا ليسوا مشغولين بها، فكل ما يهمهم هو إسقاط حكم العسكر، ومنهم من وقف الآن مندداً بمبادرة واشنطن من باب تفريطها في هوية مصر، على نحو جعل من الهوية قميص عثمان، وذكرني بمعركة الهوية التي دُفع إليها حزب النور، بتحريض أمني، إلى المزايدة بها، في لجنة الدستور، مما أعطى القوى المدنية الذريعة للانسحاب، والحجة هى المادة التي تقول إن مبادئ الشريعة كما يراها الأزهر ويفسرها ، فكان المقابل مادة وضعت لصالح المسيحيين لنكون أمام نصوص طائفية لا تليق بدستور مصر بعد ثورة عظيمة، وعند وضع دستور الانقلاب ألغيت مادة حزب النور، وبقيت مادة المسيحيين، ولم ينطق قيادات وأعضاء الحزب ببنت شفة.

ليس في مبادرة واشنطن أكثر من أنها يمكن أن تستخدم في إرباك الانقلاب، ودفع من لا يزالون يتمسكون به إلى الإيمان بأنه على جرف هار، ولم يثبت أقدامه بعد، لكن من ظنوا أنها تجرد مرسي من شرعيته، وتعد خيانة لهوية مصر الإسلامية، قد قاموا بالواجب تجاهها، ولم يبق للانقلاب وزمرته إلا أن يقولوا لهم "سعيكم مشكور"!

إن الذي نريده الآن، وقد تعذر الاصطفاف بين مختلف القوى الثورية، هو بناء تيار عريض لإسقاط الانقلاب، لأنه على مدى ثلاث سنوات ثبت أن أي تيار بمفرده لا يمكنه إسقاطه، ومصر ليست دولة في طور الإنشاء والتأسيس حتى يكون هناك خوف على هويتها، فهذه الهوية يحميها شعبها لا نخبتها، أما عودة مرسي، فهي قضية تخص من هم مع الشرعية، ولا يمكن أن تفرض على الآخرين، وعودته تكون بثورة جادة لهؤلاء وحدهم، وليس بالتباكي عليها عبر صفحات الفيس بوك!

هوية مصر لن تفرضها مبادرات إنما يمكن لها الشعب عندما تعود له إرادته المسلوبة بفعل الانقلاب العسكري.