كتاب عربي 21

ابن خلدون وجباية الانقلاب (1)

1300x600
يجدر بنا أن نتحدث عن تلك الحالة الجبائية التي تمارسها منظومة الانقلاب على نحو خطير لتعبر بذلك عن سياسة ممنهجة لإلجاء هذا الشعب إلى خانة المعدمين، يريدون بذلك أن يجعلوه في خانة العبيد بممارسة استبدادهم في إطار يكرس مسار عقلية القطيع، فإذا كان هذا الانقلاب قد مارس منذ البداية كل مسالك الترويع والتفزيع بغرض التطبيع والتطويع، فإنه يمارس الآن مسلكا آخر يقوم على قاعدة الإفقار في بر مصر. هذه الممارسة القصوى إنما تشكل عملية محاصرة كاملة لهذا الشعب بإدخاله الحظيرة الاستبدادية مرة أخرى وبيت الطاعة الاستعبادي، ضمن عملياته في إرجاع هذا الشعب بعد ثورة 25 يناير إلى حالته السابقة ومحاصرته في إطار إحدى قواعد عسكرة المجتمع "كما كنت".

في حقيقة الأمر، إننا أمام حالة يقوم ابن خلدون في مدرسته بأهم تفسير لما يحدث في بر مصر، إنه تفسير يملك متوالية غاية في الأهمية نحاول الإشارة إليها في التحليل والتفسير في مقالتين مهمتين. نبدأ بالأولى التي تتحدث عن حال الجباية، حينما يصحو الناس في مصر فيستيقظون كل صباح على قرار برفع أسعار وإلغاء دعم وإقرار دمغة وتشريع ضريبة، فإننا أمام حالة جبائية بامتياز فهذا رفع للدعم عن أهل مصر من الفقراء وهذا رفع لأسعار الغاز والماء والكهرباء وهذا ارتفاع في أسعار الغذاء وهذه مضاعفة لأثمان الدواء حتى إن إنسان مصر ومواطنيها وقعوا في دائرة المشقة والحرج الشديد، ضاقت عليهم المعايش وصار الانقلاب منحازا إلى تحالفات دنيئة.. انحاز إلى الأغنياء على حساب الفقراء وإلى بعض رجال الأعمال الذين يقايضهم على بعض المنافع في مقابل الولاء.

وذات الأمر يعبر عن انحياز لطبقات عليا بعد أن داس الانقلاب على عموم الناس بالأقدام من غير رحمة وضمن سياسات صارت تتحدث عن ثلاثية خطيرة إن طلب الناس رد عليهم "مفيش، معنديش، مش قادر أديك"، وإن ارتفعت الأسعار وتغولت على معاش الناس طالبهم بشد الأحزمة والتضحية، فإن صرخ الناس وتضوروا جوعاً قيل لهم "تقشفوا"، فإن بدا للناس أن يعبروا عن بعض احتجاجهم ويقولون "لا" على استحياء خرج إعلام إفكهم يقول لهم إنه "ليس من حقكم الاحتجاج، لم يعد هناك مكان للمحتجين فإن لم يعجبكم غوروا"، وتوج ذلك بسياسة خطيرة تقوم على (صبح على مصر ولو بجنيه)، يريد بذلك أن يقوم الناس بالتبرع من أجل مصر ضمن سياسة أخطر ما يكون تقوم على الابتزاز المباشر وغير المباشر، لا تقف عند حد التقشف ولكنها تتخطى ذلك إلى سياسة أخرى "حتدفع يعني حتدفع".

ضرائب عدة ودمغات مفروضة ورسوم معقودة، وتفنن في تسمية الضرائب.. فهذه ضريبة مبيعات، وتلك ضريبة القيمة المضافة وهذه ضريبة على الأفراح، حتى الأفراح! ضرائب بعضها من بعض تحت أسماء عدة ما أنزل الله بها من سلطان، وهذه دمغات مفروضة على الشعب تارة تكون لمصلحة القضاء العسكري وتارة أخرى رسوم محصلة من تعاملات الناس لمصلحة تحسين الخدمة الصحية للقضاة، وهذه دمغات أخرى لمصلحة الشرطة كل يتفنن في الجباية من جيب واحد، جيوب الضعفاء والفقراء والبسطاء، جيوب تلك الفئات المتنفذة محمية وهذه الجيوب الضعيفة عارية من الحماية، مستباحة بالجباية، ومن المؤسف حقاً أن تتدهور كل مؤسسات الرعاية والخدمة من تعليم وصحة وصارت الأمور بدفع الناس إلى طريق مسدود بلا حماية وبلا رعاية من جباية إلى جباية.

هنا علينا أن نتوقف عند درس ابن خلدون الأول في الجباية وارتباطه بحالة الفساد والظلم، إن تلمس المقولات الأساسية لهذه المدرسة الخلدونية لرؤية لحالة الظلم والفساد لمنظومة الانقلاب والاستبداد أمر من الأهمية بمكان فماذا يقول لنا ابن خلدون وتلامذته عن أسوء الأحوال التي صرنا فيها لتكرس مؤسسات استبداد وشبكات مصالح وفساد.. حديث الجباية الذي يفقد الناس كل حماية ويتركهم في العراء بلا رعاية، فماذا يقول ابن خلدون؟ 

ففي مقام محاولة السلطان تعويض النقص في جبايته، فيعمد حيناً إلى فرض المكوس على مبيعات التجار للرعايا وعلى الأسواق، أو بزيادة المكوس إذا كانت قد استحدثت من قبل، أو بمقاسمة العمال والجباة ، وامتكاك (أي امتصاص) وبعبارة أدق "مصمصة" عظامهم طبقاً لعبارة ابن خلدون، وأخيراً يعمد السلطان إلى ممارسة التجارة والزراعة والدخول الى عالم الأعمال والمشروعات، وهو ما لا يجمل به، ولا يستقيم معه رخاء الدولة ومصالح الرعية ،ولا الوفاء بما يحتاج إليه خزانة الدولة. لم يفت على ابن خلدون إيراد الحل والذي يتلخص في هذه العبارة: «إنَّ أوَّل ما ينمي الجباية ويثريها ويديم نماءها إنَّما يكون بالعدل في أهل الأموال والنظر لهم بذلك، فبذلك تنبسط آمالهم، وتنشرح صدورهم للأخذ في تثمير الأموال وتنميتها، فتعظم منها جباية السلطان». مساران في الجباية جباية عدل وإنماء تصب في ترقية معاش الناس وتعظيم إمكاناتهم ونماء نوعية حياتهم، وعقلية جبائية تسكن ضمن سياسات الظلم تدوس على رقاب الناس والسطو على أرزاقهم والاستيلاء على ما في جيوبهم.

تكثر الحوائج والعوائد بسبب ما انغمسوا فيه من النعيم والترف وعندها تفرض الدولة الضرائب الجديدة وترفع مقاديرها حتى تلبي الاحتياجات المستجدة وأوجه الإنفاق المتعددة فيقول ابن خلدون (فيكثرون الوظائف والوزائع حينئذ على الرعايا والأكرة والفلاحين وسائر أهل المغارم فيزيدون في كل وظيفة ووزيعة مقداراً عظيماً لتكثر لهم الجباية، ويضعون المكوث على المبايعات والأبواب... حتى تثقل المغارم على الرعايا). ويشير ابن خلدون إلى أن كثرة الأعمال والأشغال العامة تعكس زيادة واضحة في الخراج وقلة أعمال العمران تعكس فقراً ووبالا على الجباية، وأن سعة الأمصار من حيث حجمها كذلك لها كثير إسهام في الإيفاء بالقيام بضروراتها حيث تجد أهلها ضعفاء الأحوال متقاربين في الفقر والخصاصة". معادلة الترف والاسراف والتنعم، وأحوال التقشف والإفقار والفقر، ومعادلات الظلم والفساد، أمور بعضها من بعض تحكم عناصر التدهور والخراب، وتودي بمعاش الناس الى غياهب التردي والتعدي.

فهل عرفنا كيف تتفتق عقلية الظلم عن ممارسة كل أنواع الجباية وتتفنن في فرض الضرائب والمكوس وتمول كل عمليات الترف والانحلال والفساد إنه أمر عجاب يؤثر على معاش الناس ويحاصرهم إلى زاوية المعدمين والإفقار في بر مصر، ماذا يعني ذلك إلا قتل أصول السياسة؟ السياسة التي تتعلق بتوفير معاش الناس ومعالجة أوجاعهم وآلامهم وانقطاع مادة مستقبلهم وآمالهم، ماذا يريد هؤلاء إلا خراب الوطن يتنعمون وغيرهم يألمون، يترفون وغيرهم يتضورون، يسرفون وغيرهم يتقشفون، إنها صناعة الظلم الكبرى صناعة خطيرة سنتعرف على أبعادها في مقالة قادمة.