قضايا وآراء

مسارات وفرص في مواجهة حريق القدس

1300x600
قرع حريق المسجد الأقصى وعي الأمة، وهزّ ضمائرها، ولهذا معنى شائك للغاية، بأنّ حرارة التفاعل مع القدس وقضيتها تبقى معلّقة بانتظار حدث ستراه الجماهير صادما واستثنائيا. 

لكنّ جريمة الإحراق في ذلك اليوم الصيفي من سنة 1969؛ جاءت تعبيراً تجريدياً عن حريق أوسع، وإن لم يكن مرئياً بالكامل، يتمثل في احتلال القدس ذاتها، واستهداف المقدسيين بسياسات وإجراءات جائرة، علاوة على العدوان على مقدّسات المدينة وتاريخها وهويتها، وتفاقم الابتلاع والقضم والتهويد والاستيطان.

فبعد احتلال المدينة القديمة سنة 1967 اتخذت الهجمة على القدس منحى الحرب الصامتة، الدؤوبة ومتعددة المسارات، فأخذت تتفاقم خطوة خطوة، ساعية على شتى الصُّعُد لإنتاج تكيّف سياسي وإعلامي وجماهيري مع ما يريده نظام الاحتلال أمراً واقعاً مفروضاً بسطوته هيمنته العسكرية. إنها حرب الضغوط التدريجية المتعاظمة التي تغري بالتكيّف معها والإذعان لواقعها؛ وليست حرب الصدمات الفجائية التي تستثير ردود الأفعال الساخطة والردود التصعيدية.

بهذا المعنى؛ تبقى للهجمة المُزمنة على القدس خصائصها، التي تفترق بوضوح عن سمات الحملات العدوانية على قطاع غزة مثلاً عندما كان يدوِّي صدى القصف الذي تحدثه في أرجاء الأرض فيستثير سخطاً عارماً وهبّة جماهيرية واسعة.

من هنا؛ يتشكّل التحدي الذي تفرضه هجمة الاحتلال المزمنة والمتفاقمة على القدس، ألا وهو الحاجة إلى مقاومة التكيّف السلبي مع واقع الاحتلال وحربه الهادئة على المدينة وأهلها ومقدساتها وهويتها، وتطوير استجابات فعّالة متعددة المسارات والأشكال ردّاً عليها، علاوة على صناعة الحدث والانتصار لأمر واقع مناوئ؛ هو صمود المقدسيين على الأرض وإرادة الشعب الفلسطيني في القدس وما حولها.

تتزايد ضرورات التفعيل والتحريك خاصة إزاء طور ساخن تستشرفه قضية القدس مع اقتراب الذكرى الخمسين لاحتلال شطر المدينة الشرقي، وهي مناسبة سيحرص نظام الاحتلال على تقديمها مشفوعة بتعبيرات الابتلاع وحمّى التهويد سعياً لتكثيف فكرة الأمر الواقع الذي لا رجعة عنه وإرادته الصارمة التي لا تُكسَر.

يفرض هذا المنحى توجّهات فعالة لإسناد المقدسيين الذين هم المكوِّن السكاني الأساسي في القدس، مع التركيز على افتقاد السلطة المحتلة الشرعية حتى بعد عقود الاحتلال الطويلة لشطري المدينة. وما زال في رصيد القدس، رغم كلّ التقاعس الدولي، حزمة متجددة من الرفض والاستنكار بحق بعض سياسات الاحتلال التوسعية، تتبنّاها دول وهيئات دولية وإقليمية تراقب ولا تتدخل؛ بما فيها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.

والواقع أنّ قضية القدس تحظى في الوقت الراهن ببعض الفرص التي تراكمت على نحو غير مسبوق تقريباً. فقد طرأ نموّ نوعي على آليّات التفاعل الجماهيري والمدني في بعض مناطق العالم مع التطورات الفلسطينية، ولا يمكن استثناء مستجدات القدس من هذا المنحى. كما تجود مستجدات الاتصال والإعلام على الأوساط المتفاعلة بفرص سخيّة في هذا الشأن، خاصة عبر التشبيك التفاعلي والتواصل الافتراضي، والمواكبة الإعلامية في الاتجاهات المتعددة، علاوة على مفعول لغة الصورة والمشهد وخيارات توظيفها المتعاظمة.

على أنّ خصوصية قضية القدس مؤهّلة بشكل نوعي لاستنفار العالم الإسلامي، المنشغل بهموم متفرقة، واستثارته مع علوّ منسوب انتهاكات الاحتلال أو استفزاز مجموعاته المتطرفة، وهو ما يتطلّب، بالمقابل، حذراً من تحوّل هذه الأخيرة إلى ممارسات اعتيادية مألوفة.

إنّ تفعيل قضية القدس جماهيرياً مدنياً وإعلامياً يتطلّب إرادة وتصميماً، مع تجاوز السقف المنخفض الذي اصطنعته الرسمية الفلسطينية في التفاعل مع القضية، والتحرر من خطاب العجز العربي الرسمي، ومكافحة روح اليأس وبواعث القنوط التي تبثها ثقافة الأمر الواقع الاحتلالي. صحيح أنّ حالة الاحتلال في القدس ضاغطة وخانقة، لكنها تفتقر إلى الصدمات المنبِّهة وعناصر الاستثارة الفجائية للجماهير، رغم جرائم بشعة تقترفها عصابات المستوطنين بطرق وحشية وبدائية كما جرى مع الفتى محمد أبو خضير في بداية صيف 2014. وإن حافظت أحداث القدس على نمطيتها، وافتقرت، كالمعتاد، إلى تطوّرات تراها جماهير الأمة والعالم صادمة؛ يجدر التوجّه مثلاً إلى إحياء نوعي لمناسبات مخصوصة مرتبطة بالقدس وبعضها ما زال ضامراً في الوعي الجمعي، علاوة على نحت محطات زمنية جديدة لتسخين التفاعل، مع التوسع في منهجية صناعة الحدث.

كما يقتضي التقدّم في مسارات الفعل؛ تطوير جوانب منسيّة وملفات متروكة، من قبيل إنعاش الوعي بالهوية الفلسطينية للقدس الغربية مثلاً، ونحت فعاليات رمزية مخصصة مثلاً للبيوت الفلسطينية السليبة فيها، أو لتسليط الأضواء على ممارسات كالتي تستهدف مقبرة مأمن الله في شطر المدينة الغربي، وغير ذلك كثير.

ومن مفاتيح التحوّل في التفاعل؛ السعي إلى تحويل سياسات الاحتلال وإجراءاته ومشروعاته ومنشآته إلى أعباء متزايدة عليه. فجدار التوسع والفصل العنصري مثلاً، ومنه المقطع المسمّى غلاف القدس، قابل لأن يتكرّس، بمشهده الموحش ولونه الرمادي الكئيب، رمزاً فاضحاً للاحتلال عبر العالم. ولا تقتصر بشاعة الاحتلال على المنشآت والحجر، أو على السياسات والإجراءات وحسب؛ بل تتكشّف مع تعاظم الملمح الفاشي والديني المتطرف في صفوف المستوطنين، وهو ما يمثل عبئاً على صورة نظام الاحتلال في العالم وقد يتسبّب في ردود أفعال عارمة أحياناً وإشعال فتائل الاحتقان الجماهيري الكامن؛ سواء في القدس أم في مناطق أخرى في فلسطين، علاوة على التفاعل في الخارج.

ولن يُعدم المقدسيون، ومعهم شعبهم في عموم فلسطين، خيارات متجددة لإنهاك الاحتلال واستنزافه على الأرض، حتى بطرق غير مكلفة نسبياً، بما يرفع كلفة الاحتلال ويزيد متاعبه بأساليب نبيهة ومحدودة الكلفة المباشرة على المجتمع والأفراد، وهذا من فقه المقاومة الشعبية.

ولا يصحّ تجاهل المسارات المتعددة وشقّ المزيد منها وتطوير ما هو قائم، مثلاً بمنح مزيد من الزخم لموجة المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات، أو "منع" اختصاراً، من خلال جهود مركزة على اقتصاد منظومة الاحتلال في القدس، وبما يساهم في تعطيل مصالح الاحتلال ومشروعاته في المدينة.
وإذ تتعدد الخيارات وتنفتح على فرص متعددة؛ فإنّ ما ينبغي الإقرار به على أي حال؛ أنّ ألسنة اللهب التي امتدّت إلى منبر المسجد الأقصى في صيف 1969، كانت تجريداً وقائعياً لحالة الاحتلال وهجمته على القدس، وهي حالة لم تُخمد نيرانها الكامنة تحت السطح، وقد باتت تستدعي أكثر من أي وقت مضى، استدراكاً جوهرياً في استراتيجيات الفعل وخيارات التحريك. 

ولا ريب، أيضاً، أنّ تحرّر القدس من الاحتلال وفكاكها من مشروعه التوسعي؛ يقتضيان إطلاق الطاقات الكامنة والقدرات المعطّلة في التفاعل مع قضية القدس في الدوائر المقدسية والفلسطينية والعربية والإسلامية والإنسانية، وعلى هذا أن يجري الآن .. وليس غداً.