كتاب عربي 21

متى تتحقق المصالحة التاريخية بين السنة والشيعة

1300x600
عندما يلتقي سني وشيعي ويكتشف كل منهما الهوية العقائدية والمذهبية للآخر، قد يتبادلان بعض الحديث أو الخدمات والمصالح، لكن في أعماقهما توجد هواجس وأسئلة حائرة، إن لم نقل مخاوف واتهامات كامنة في الأذهان والأنفس.

ليست هذه حالة عامة، إذ لكل شأن استثناءات، لكن هذه الحالة أصبحت شائعة منذ سنوات. هناك من يرجعها إلى المرحلة التي عقبت الثورة الإيرانية عندما تمت صياغة الدستور الجديد لهذا البلد الهام وفق المذهب الاثنا عشري مما أضفى على هذه التجربة بعدا مذهبيا وطائفيا واضحا، في حين يرى البعض الآخر أن الأزمة بين السنة والشيعة اتخذت منحى خطيرا بعد احتلال العراق من قبل القوات الأمريكية وما اتسمت به إدارة شؤون هذا البلد الكبير من سوء وتمييز من قبل الأغلبية الشيعية المدعومة من طهران، وهو ما أدى إلى مزيد تعميق الشرخ بين الطائفتين.

ويذهب آخرون إلى كون ما حدث بعد الثورة التونسية من اهتزاز إقليمي فتح المجال أمام حدوث رجة وتصدع قوي أعاد الحياة لأشباح الماضي، وجعل أطرافا عديدة تعتقد بأنها قادرة على إعادة تشكيل المنطقة وفق منطلقات مغايرة ومن بينها المرجعيات المذهبية. ومهما تكن نقطة البداية، فالمؤكد أن الصراع السني الشيعي قد تحول الآن إلى خطر حقيقي يهدد ليس فقط وحدة الأمة، ولكن الأخطر من ذلك تفتيت الشعب الواحد وتقسيم الدولة الوطنية الجامعة.

هذا الصراع ليس أمرا حتميا، رغم أن جذوره تخترق مختلف مراحل التجربة التاريخية الإسلامية. فمحطات الصراع المباشر كانت قليلة مقارنة بفترات الاستقرار والتعايش. إذا استثنينا محطات الدولة العبيدية والدولة المهدية والصراع الكبير الذي حصل بين الصفويين والعثمانيين، فإنه يمكن القول بأن مساحة التعايش كانت هي الأوسع والغالبة في العلاقة بين الطرفين.

عندما اجتمع مؤخرا عدد من النشطاء العرب، شيعة وسنة، بمدينة إسطنبول وذلك بدعوة من منظمة قرطبة السويسرية، لم يجدوا عناء كبيرا للتوصل إلى أن السياسة هي التي قسمتهم سابقا، وهي التي تعود حاليا لتضرب بعضهم ببعض بحجة الخلافات المذهبية. فتطور الخلاف الإيراني السعودي انعكس بشكل خطير على المواطنين الشيعة والسنة بمختلف الدول والمواقع. فقد تختلف مع إيران ومع ذلك تحسب بكونك تدور في فلكها لمجرد كونك شيعي. وقد تحسب على السعودية رغم خلافك مع سياساتها لمجرد كونك سني. وفي ذلك ظلم لكثير من المواطنين العرب الذين دفع بعضهم ثمنا باهظا نتيجة حشره في خلاف لا يعلم مضامينه وأبعاده.

دعا عديد المصلحين من قبل إلى شطب المذاهب والتحرر من الطوائف، وذلك بالعودة مباشرة إلى مصادر الإسلام قبل أن يولد الشيعة والسنة وغيرهم من الفرق. وهي دعوة مشروعة يقتضيها الوعي التاريخي، لكنها فشلت على الصعيد العملي، حيث ثبت أن الدين قد ارتبط عضويا بالفرق والمذاهب، وهو ما جعل المذهب مقدما على الإسلام في كثير من الحالات، وأصبح من شبه المستحيل الفصل بينهما. وكل من حاول أن يجرب ذلك وجد نفسه يصطدم بأنظمة وهيئات ومؤسسات ورأي عام قوي، وربما عرض نفسه للمحاكمة أو العزل الاجتماعي والتشكيك في صحة عقيدته. وفي انتظار تحقيق إصلاح ديني عميق تلتف حوله جموع المؤمنين يصبح لا مفر من أن يتعاون قادة الرأي والمصلحين من أبناء الطائفتين على إطفاء فتيل الفتنة وسحب البساط من القوى والأطراف الحريصة على استثمار الخلافات المذهبية وتوظيفها في سبيل تحقيق مصالح إقليمية بعيدة عن الشأن الديني وغارقة كليا في مستنقع الحسابات السياسية.

إن المصالحة التاريخية بين السنة والشيعة لم تتحقق إلى حد الآن رغم الشعارات التي رفعها رموز مختلفة من داخل الدائرتين؛ لأن هذه الشعارات سرعان ما سقطت وتمزقت عندما تعارضت مع مصالح الحكومات والجماعات. فإيران دولة تريد استعادة مواقع نفوذها في المنطقة، وللسعودية مخاوفها ورهاناتها، وداخل كل بلد عربي أفراد وجماعات وزعامات يستمدون "مشروعيتهم" بفضل استمرار هذا النزاع المذهبي، ويقدمون أنفسهم على أساس كونهم الضامنين لمصالح هذا الطرف أو ذاك، ولهذا يتعمدون في أحيان كثيرة تغذية خطاب الكراهية للحيلولة دون الوصول إلى استقرار لا يخدم مواقعهم ولا يعزز نفوذهم. وما حصل ولا يزال بالفلوجة إلا مثال بشع لهذا السلوك الانتقامي القبيح الذي يعلن أصحابه أنهم يريدون انقاد المدنيين السنة، ولكنهم ينتقمون منهم بشكل فظ وماس بالكرامة، وبدل أن يحصل التحرير الذي يتحدثون عنه، يعمقون الأحقاد ويهيئون المناخات الملائمة لإعادة إنتاج الصراعات القديمة المتجددة. وبذلك يتحول الخلاف الطائفي سنة / شيعة إلى دائرة مغلقة لا فكاك منها.