قضايا وآراء

عوامل القوة لا الذكاء السياسي

1300x600
الحنكة السياسية أو الذكاء السياسي، هل هي ما يحدد نفوذ وقوة الدولة أو الحركة أو الحزب أو التيار أم عوامل القوة المختلفة: الاقتصادية منها والعسكرية أو (الاحتضان) من قوى عظمى؟

لننظر إلى إسرائيل مثلا؛ نرى أن تأثيرها وبقاءها منذ عقود قوة محتلة غاصبة فوق أرضنا مرده ما تحوزه من سلاح وعتاد، إضافة إلى الدعم الغربي عموما والأمريكي خصوصا، وإلا فإن الصفاقة الدبلوماسية تميز إسرائيل وقادتها بلا منازع.

ومنذ بضع سنين خاصة بعد ما جرى من ثورات وأزمات وحروب في كثير من البلاد العربية يطرح بعض الساسة وبعض الإعلاميين والكتبة، ما هو أشبه بتقييم وشهادة (ذكاء سياسي) يوزعونها وفق أجنداتهم أو أهوائهم ويتهمون بها أحزابا وحركات ودولا بأنها افتقدت الذكاء و الحنكة السياسية في التعاطي مع المتغيرات؛ وغالبا ما يقدمون مثلا يتعلق بقراءة الأزمة السورية فيرددون معزوفة مشروخة: التيار الإسلامي وتحديدا الإخوان ومنهم حركة حماس تسرعوا حين ظنوا أن النظام السوري آيل للسقوط وبنوا حساباتهم بناء على ذلك.

ولا شك أن الكل أخطأ في تقدير الموقف من مجريات الوضع في سوريا، ولكن هؤلاء ينسون أيضا أن القراءة المعاكسة عن انتصار النظام وعودته إلى السيطرة على كافة المحافظات السورية هو تقدير أكبر خطأ ممن ظن قرب سقوط النظام، فكلا القراءتين لم تصيبا الحقيقة والوضع متدحرج، وعليه فإنه لا يجوز أن تمنح شهادة (الجودة) في الذكاء السياسي لهذا أو ذاك مثلما يفعل بعض هؤلاء.

ومما يقولونه أيضا في معرض توزيع الشهادات بأن إخوان مصر افتقدوا الذكاء السياسي تماما، وهذا سبب ما يعانونه الآن من قمع وتنكيل واستهداف وممارسة الاستئصال الكامل لهم من قبل الدولة المصرية العسكرية.

وحيث أن غالبية من يرددون هذا الكلام هم من محور إيران أو المتحالفين معه أو المؤيدين له أو المقربين منه فدعونا نعود إلى بواكير سنة 1991م، حيث شنت أمريكا ومعها حلفاء من حوالي 30 دولة حربا على العراق الذي كان يقوده صدام حسين بعد قيامه باحتلال الكويت..

ففي نهاية تلك الحرب أدخلت إيران عناصر من التابعين لها من تنظيمات الدعوة والمجلس الأعلى وغيرهم إلى المحافظات الجنوبية وقادوا تمردا عسكريا مع من تعاون معهم من سكان المنطقة ودمروا كل مقرات الأمن ولم يعد للنظام في بغداد سيطرة على تلك المحافظات ذات الكثافة السكنية الشيعية..

ولكن أمريكا سمحت لقوات النظام بسحق ذلك التمرد بكل قوة وقسوة، فأمريكا ومعها الحلفاء من دول الخليج المجاورة لم يكونوا على استعداد لقيام كيان أو دويلة شيعية تتبع إيران في ذلك الوقت..

وعليه، فهل كانت إيران وحلفاؤها الذين يسيطرون اليوم على الدولة العراقية يتمتعون بالحنكة السياسية والقراءة الواعية للأمور؟ لقد قدروا أن النظام العراقي سينهار أو على الأقل ستسمح أمريكا بأن يفقد سيطرته على محافظات الجنوب الحساسة لقربها من منابع النفط، وكان تقديرهم سببا في ما جرى لهم من قمع دموي..

وأيضا، هل تمكنوا بعد 12 عاما من دخول العراق وإقامة حكومة بمرجعية (ولاية الفقيه) دون احتلال أمريكي، مسنودا بدعم إيراني واضح؟

فالذكاء والحنكة والحصافة ليست هي المحدد ولا المعيار بل ما تملك من أوراق قوة مادية فعلية؛ فمثلا لو نظرنا إلى حركة حماس وهي فرع الإخوان الفلسطيني، لوجدنا أنها بعزل مرسي حوصرت تماما من السلطات المصرية، وبرفضها التعاطي بطريقة حزب الله مع الأزمة السورية فقدت مصدرا مهما من مصادر الدعم الأساسية.

ولكنها قبل الربيع العربي وأثناء ازدهاره وبعد تحوله إلى صيف حارق  عملت على تقوية نفسها عسكريا بحيث صارت قوة يعمل لها حساب، وخاضت حربا قاسية صيف 2014م في وقت غياب الحلفاء السابقين أو انشغالهم ووجود نظام معاد في الجوار، فنجت بعكس  من لم يمتلك أوراق القوة أي إخوان مصر؛ حيث أن هؤلاء ليس بيدهم أوراق قوة نهائيا لا اقتصادية ولا إعلامية ولا عسكرية-وهي الأهم)-فجرى لهم ما جرى أو سيجري.

فالحديث عن الذكاء والحنكة يبدو مضللا لأنه يتجاهل الشيء الأهم والمحدد لوزن أي كيان على الأرض، ولكي لا نبتعد كثيرا؛ أولو قررت روسيا وإيران ترك نظام بشار يواجه مصيره أكان سيستمر طوال هذه السنين؟

أولو كان الأمريكان جادين في إسقاطه هل كان سيبقى ولو شهرا واحدا؟ثم يأتيك من يشيد بحنكة النظام السياسية التي مكنته من الصمود في وجه (المؤامرة)...دعكم من هذه الترهات وكما نقول(خيّط بغير هالمسلة).

ولكن هل يكفي أن تمتلك أوراق قوة أم يجب أن تعرف كيف ومتى تستخدمها؟ الحقيقة أننا في زمن يجب أن تلوح دوما بأوراق قوتك، وأن تظهرها إذا تعرضت للخطر، أما استخدامها زمانا ومكانا وظرفا فالسيرورة الطبيعية للأحداث هي التي تحدده.

حسنا، هل تكفي القوة المادية المتغيرة بحكم طبيعة الأشياء لبقاء كيان أو دولة أو تيار على قيد الحياة؟ لا طبعا، فتراجع قوة العثمانيين العسكرية التي لم يكن يرفدها عوامل قوة ثقافية وعلمية سرّع في أفول نجمهم، ولكن عند وجود خطر وجودي ومصيري لا ينفع الذكاء ولا تجدي الحنكة، ولا الإيواء إلى الظل ينجي المستهدف، إلا إذا كان بيده أوراق قوة مادية يعمل لها خصمه أو عدوه حسابا.