كتاب عربي 21

الأسد باق وقد يتمدد

1300x600
منذ بداية الثورة السورية، اختزلت القوى الدولية التي عرفت نفسها بمجموعة "أصدقاء سوريا"، المسألة السورية برحيل بشار الأسد، باعتباره راعيا للإرهاب، ومع تنامي الجماعات الجهادية وصعود تنظيم الدولة الإسلامية، أصبحت الأولوية الكونية تتلخص بالتخلص من "إرهاب داعش"، وغدت نقاشات حفلات التفاوض تقتصر على دروس افتتاحية في تعريف ماهية الإرهاب، وهو مفهوم يستعصي على الحد المنطقي منذ دخوله قاموس السياسة.

لكن تقنيات التفاوض الاحتفالي الاحتيالية، تجاوزت تحديدات وحدود معنى "الإرهاب"، باعتباره إشكاليا، لكنها سلّمت بالإجماع أن "داعش" يمثل روح "الإرهاب" وجسده، وهكذا فإن الأسد عدوا للإرهاب لا يمكن أن يكون إرهابيا.

مع ديمومة محادثات السلام المتقطعة في جنيف، التي لا تزال في مرحلة الدروس الافتتاحية في تعريف الإرهاب، وتحديد هوية الإرهابيين، أعرب المبعوث الخاص للأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، عن أمله بالانتقال من مناقشة المبادئ إلى مناقشة موضوعات سياسية فعلية، حيث هيمنت على الجلسات مناظرات الإرهاب.

فمبعوث الأسد لا يزال يصر على عدم الجلوس مع الإرهابيين مسألة تتعلق بآداب الحجاج والحوار والمناظرة، فكبير المفاوضين محمد علوش  الذي ينتمي إلى فصيل "جيش الإسلام" بحسب الجعفري "إرهابي"، كما أن فصائل المعارضة السورية المسلحة تقع في خانة الإرهاب.

وإذا كان تنظيم الدولة الإسلامية يمثل أصلا ومعيارا مؤسسا لمعنى الإرهاب كما سلّم الجميع، فينبغي للمجتمع الدولي استخدام قياس المماثلة للوصول إلى حكم صريح يعمم على كافة الفروع ، وإذا علمنا أن جماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين تدخل في معنى الإرهاب بطرائق عديدة، كما توصل التقرير البريطاني، ومشروع القرار الأمريكي الذي قدم إلى الكونغرس مؤخرا، فضلا عن وضع الجماعة على لائحة الإرهاب المصرية والسعودية والإماراتية، فإن فصائل الثورة الإسلامية لا يمكن أن تخرج عن معنى الإرهاب، بحسب المنطق السياسي الدولي.

منذ التدخل الروسي في سوريا نهاية أيلول/ سبتمبر الماضي، وهو تدخل جاء على خلفية حرب الإرهاب، كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها يراهنون على ممارسة الروس لضغوطات على الأسد لإقناعه بالرحيل في نهاية ماراثون المرحلة الانتقالية.

لكن روسيا التي تتوافر على تعريفات خاصة للإرهاب، جادلت منذ البداية على أن قائمة الجماعات الإرهابية لا تقتصر على "داعش"، بل تتضمن قائمة طويلة من أخوات "داعش"، من الفصائل المسلحة السورية، بحسب منطق قياس المماثلة.
 
عندما أدرك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بأن التدخل العسكري في سوريا بات بلا أفق ولا نهاية ملموسة، ولا يمكن أن يحقق مكاسب إضافية، أعلن عن انسحاب جزئي بهدف ممارسة ضغوطات على الولايات المتحدة، والأسد، لتحصيل أكبر قدر المكاسب الممكنة.

فاستمرار روسيا على ذات الوتيرة العسكرية دون نتائج سياسية واضحة يتطلب تخصيص موارد اقتصادية وأكلافا مالية مرهقة، وقد يضع روسيا في مواجهة جيوسياسية لا يرغب بوتين في خوضها.

كما أن المضي قدما في الحملة العسكرية دون ترجمتها سياسيا، يقوض مصداقية روسيا التي حققتها على صعيد موضعة الأطر الديبلوماسية وإمكانية تطبيقها كما جائت في بيان فيينا في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، ونجاحها في وقف الأعمال العدائية الذي دخل حيّز التنفيذ في 27 شباط/ فبراير 2016.

يصرف النظر عن دواعي التدخل العسكري الروسي وحساباته الاستراتيجية، فإن بوتين أدرك أخيرا صعوبة التوصل إلى حل سياسي، أو حل عسكري قريب، لكن الأهم تمثل بكشف محدودية تأثير نفوذه على الأسد ونظامه.

فقد تواترت خطابات رجال الأسد بدعوى الاستقلال وموضوعة السيادة، وتعالت أصوات النظام بشرعية الأسد خطا أحمر لا يمكن المساس به أو الاقتراب منه، بل ذهب إلى الإعلان عن إجراء انتخابات برلمانية في تحدّ صريح  للشروط والجدول الزمني المنصوص عليه في بيان فيينا.

وبهذا فإن إعلان الانسحاب الروسي الجزئي يعني الرضوخ لشروط وقواعد الأسد، وتعبيرا عن فشل المقاربة الروسية، التي راهنت عليها القوى الدولية والإقليمية، ذلك أن الأسد ونظامه شيء واحد لا يقيل القسمة والتجزيء.

الأسد باق ويتمدد، تلك خلاصة أدركها بوتين، إذ لم يعد الأسد رهينا لرغبات بوتين، بل إن بوتين أصبح في قيود الأسد، فقد بات واضحا أن الانسحاب الروسي ووقف أو تقليل الدعم لنظام الأسد ينطوي على مخاطرة تهدد بسقوط النظام برمته.

وبهذا فإن المساعدات العسكرية والاقتصادية الروسية كافة التي قدمت للنظام السوري على مدى سنوات تصبح عبثا وتذهب سدى، ولا تقف الخسائر الروسية عند الحدود المادية فحسب، بل تطال المجالات الرمزية للهيبة الروسية والحقول الجيوسياسية، الأمر الذي يعني الأفول الروسي ليس عن سوريا فقط، بل المنطقة بأكملها.

في هذا السياق، فإن الحديث عن رحيل الأسد سيبقى داخل غرف المفاوضات، وفي إطار المناظرات، فقد تبدلت الأجندات، وتغيرت التفاهمات بين روسيا وأمريكا، فقد نفى الكرملين ما تناقلته تقارير إعلامية حول توصل موسكو وواشنطن إلى تفاهم بخصوص مستقبل الرئيس السوري بشار الأسد، حيث تحدثت عن خروجه من سوريا إلى دولة ثالثة لم تتم تسميتها، لفسح المجال لإمكانية البدء بخطوات إنهاء الأزمة الممتدة لأكثر من خمس سنوات.

فبحسب وكالة الأنباء الروسية "سبوتنيك" في 31 آذار/ مارس الماضي، فإن "الرئاسة الروسية نفت صحة ما أُشيع عن أن موسكو وواشنطن توصلتا إلى تفاهم على مستقبل الأسد". وقال الناطق باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، إن بلاده "لا تناقش مسائل تقرير مصير دول ثالثة بما فيها سوريا، في القنوات الدبلوماسية وأي قنوات أخرى".

هكذا إذا، سوف نشهد ديناميكية جديدة للصراع في سوريا، فالفصائل المسلحة لا تتلقى دعما كافيا من أصدقاء سوريا المفترضين، كما أن هذه الفصائل باتت منهكة، وحائرة بين حرب مؤكدة مع تنظيم الدولة الإسلامية للتخلص من تهمة الإرهاب، وهدنة مشوشة مع نظام الأسد للبرهنة على امتثالها لمسار المفاوضات، وطمعا في تحصيل منافع ومكاسب فصائلية مادية ومعنوية متطلبات أساسية للدخول في لعبة "الاعتدال".

تنظيم الدولة الإسلامية يدرك هو الآخر حدود اللعبة، فهو لا يلتفت إلى المفاوضات والمناظرات، ويعمل جاهدا على الصمود والتمسك بمكتسباته، ويسعى إلى خلط الأوراق عبر عمليات اختراق لأماكن حيوية، خصوصا في الجبهة الجنوبية من خلال جماعات موالية له، حيث انتقل التنظيم من الدفاع إلى الهجوم لتوسيع منطقة سيطرته في القرى الواقعة إلى الغرب والشمال من درعا عاصمة المحافظة، الأمر الذي أدركه نظام الأسد جيدا، حيث باشر بشن عملية واسعة لاستعاد مدينة تدمر الصحراوية، الأمر الذي تحقق بإسناد الطيران الروسي، وهي عملية تهدف أساسا إلى البرهنة على جدية نظام الأسد وروسيا بوتين في محاربة "إرهاب" تنظيم الدولة الإسلامية، وإمكانية هزيمة التنظيم إذا توافرت تفاهمات دولية جدية لحرب الإرهاب، التي تتلخص بالتخلي عن رحيل الأسد، بل اعتباره شريكا لا غنى عنه في حرب الإرهاب.

بعد استعادة مدينة تدمر من تنظيم الدولة الإسلامية، تلقى الأسد ونظامه إشادات دولية وشهادات وتهنئات لم تنقطع، لكن المعارضة السورية السياسية والفصائل العسكرية عزفت لحنا مكررا على نغمة علاقة التنظيم بالنظام في مسرح العبث التآمري، وأصرت على رواية الوجوه المتعددة للإرهاب، وتبادل الأدوار بين الإرهابيين.

فمسرح تدمر لم يدمر وجثث الإرهابيين ليست عارية، لكن الأسد لا يعبأ بحداء المعارضة، فهو يواصل الضغط على فصائل المعارضة المسلحة في المناطق المحاصرة، خصوصا جنوب دمشق وشمال حمص، حتى تخضع راغمة للاستكانة وتلتزم بالهدنة، فيما يواصل النظام عمليات العزل والقضم الجبهة تلو الأخرى.

أما المعارضة السياسية فتقتصر أنشطتها على المطالبة بفك الحصار ومناشدة المجتمع الدولي بإدخال المساعدات الإنسانية، وباتت عاجزة عن المبادرة السياسية والعسكرية.

خلاصة القول، إن الأسد باق وقد يتمدد، ذلك أن ديناميكية الصراع في سوريا لن تحسم في المدى المنظور، فالنظام السوري لا يستطيع فرض سيطرته التامة على سوريا، ولا يتوفر لديه قدرات ذاتية -رغم مساعدة حلفائه من روسيا وإيران وحزب الله- تمكنه من القضاء المبرم على فصائل المعارضة المسلحة، ولا يبدو أن ثمة أمل بإقناع الولايات المتحدة مع أوباما أو خلفائه بالاصطفاف إلى جانب النظام السوري وحلفائه من الروس والإيرانيين شركاء في حرب تنظيم الدولة الإسلامية.

فالولايات المتحدة لا تتوافر على رغبة وإرادة للدفع باتجاه فرض عملية سلام على الأطراف كافة، ليس فقط على الصعيد العسكري، بل حتى على الصعيد الديبلوماسي، وإذا كانت القوى الكبرى مثل أمريكا وروسيا لا تجد في إنهاء الصراع مصالح استراتيجية حيوية، فإن سيناريو ديمومة الأزمة سيتواصل، في ظل عدم قدرة الأطراف الإقليمية على حسم الصراع.