كتاب عربي 21

"غزوة الصناديق"!

1300x600
كان يمكن أن يمر يوم (19 مارس) بشكل طبيعي، لولا أن هناك من يحرصون في مثل هذه المناسبات على تأكيد رجاحة عقولهم، وسلامة مواقفهم، وادعاء الحكمة بأثر رجعي!.

ففي هذا اليوم وبعد تنحي مبارك عن الحكم بـ (36) يوما، رضوخا لإرادة الثورة، كانت مصر على موعد مع الاستفتاء على التعديلات الدستورية، في يوم مهم من أيام الثورة المجيدة، احتشدت فيه الجماهير، بالساعات في "طوابير طويلة"، لتقول كلمتها، في أول مرة في طول التاريخ المصري وعرضه، رأى فيه المصري أن لصوته قيمة، فقد ردت الثورة الاعتبار لهذا الصوت، وهذا وحده يمثل انتصارا بليغا لثورة يناير.

بيد أن القوى السياسية الفاشلة، نصبت مناحة، لأن النتيجة جاءت على غير ما تهوى، فقد قالت الجماهير (نعم) للتعديلات، بينما انحازت هي لـ (لا). ومن ينتمون لهذه القوى يؤرخون للانقسام الذي حدث بين قوى الثورة منذ هذا الاستفتاء، بل ويرون أن نتيجته هي نتاج تحالف الإسلاميين والعسكر، وهزيمة للثورة، لأن "زعيط"، و"معيط"، و"نطاط الحيط"، وباعتبارهم شكلوا ما أطلقنا عليه ائتلافات الوجاهة الاجتماعية، واحتفى بهم إعلام الثورة المضادة، فقد صاروا هم من يعبرون عن الثورة وقيمها، وما دامت النتيجة جاءت على غير هواهم، فلا معنى لهذه الهزيمة، إلا أن تكون هزيمة للثورة، تبرر لهم جرائمهم بعد ذلك عندما تحولوا إلى جسر لعبور الدبابات، التي تحمل قائد الانقلاب العسكري للقصر الرئاسي!

وفي كل عام تستدعي جماعات الكفاح الفاشل، مقولة "عزوة الصناديق" للتأكيد أن هزيمة الثورة بدأت من هذه اللحظة، كما أن المقولة كانت كاشفة عن نهاية الثورة على أيدي الإسلاميين، الذين خلطوا بين الدين والسياسة، فكان تصويت أنصارهم دينيا، ومعلوم أن هذه الجماعات منحازة للدولة المدنية، وأكبر دليل على هذا الانحياز، أنها شاركت في انقلاب، توج فيه العسكري رئيسا للبلاد، في مشهد كهنوتي حضره البابا وشيخ الأزهر، لا تخطئ العين دلالته!

هناك عيب في الشخصية المصرية، يتمثل في إدعاء رجاحة العقل، والحكمة بأثر رجعي، فبعد وقوع الانقلاب فكلنا كنا نعلم أن انقلابا عسكريا سيقع، وكلنا كنا نتوقع أن السيسي سيحكم، وكلنا حذرنا، لكن هناك استثناء من كلنا هنا، فالوحيد الذي لم يتوقع، ولم يعلم، ولم يصدق، ولم يأخذ الأمر على محمل الجد هو الدكتور محمد مرسي!

وفي سبيل ادعاء الحكمة بأثر رجعي، فهناك من ينتظر (19مارس) من كل شهر، ليؤكد صحة موقفه، وبالنظر إلى أن نتيجة الاستفتاء في هذا اليوم هي التي أنتجت هذا الانقلاب، ويغري بمواصلة هذا الكلام، أن الطرف الآخر يطأطئ رأسه استشعارا للحرج، حتى صار هذا التصور من المسلمات، بالتكرار والإلحاح، تماما كما كانت عبارة "لقد بعتونا محمد محمود"، قبل أن نواجهها ونفندها فنحولها إلى نكتة كلما ذُكرت!

للتذكرة، فبعد تنحي مبارك، كان هناك شعاران: الأول يقول الدستور أولا، والثاني يقول الانتخابات أولا. وأصحاب الرأي الأخير يرون بالتالي ضرورة الاستفتاء على تعديل عدد من المواد شكلت لهم لجنة، ليتم الإسراع بالانتخابات لإنهاء المرحلة الانتقالية، لأن لديهم تصورا أن استمرار المجلس العسكري في السلطة قد يغري باستمراره فيها عندما يبدأ الحديث في تشكيل لجنة لوضع الدستور والانتهاء من صياغته والخلافات التي ستنتج بين الأطراف المختلفة. وأصحاب الرأي الأول كانوا يرون أن العسكر لا يمكن أن يستمروا في الحكم أكثر من المدة التي حددها البيان الأول وهي ستة أشهر، وعليه فلا بد من أن تكون البداية بتعديل الدستور، حتى لا يتحكم فيه الرئيس الذي يوضع في ظل حكمه.

وقد كنت مع أنصار الرأي الأول وصوت على التعديلات الدستورية بـ (لا) وكتبت مقالات بهذا المعنى، وشاركت في مقابلات تلفزيونية ودافعت عن هذا الرأي، لكني سلمت بنتيجة هذا الاستفتاء، لأني مؤمن بأن الشعب صاحب السيادة، وغيري ممن كانوا على نفس موقفي، من يحملون احتقارا لهذا الشعب، مع أنهم يدعون للدولة المدنية التي تحكم بالأغلبية الشعبية!

لم أر في فوز (نعم) ما يخدش الصورة الرائعة لاحتشاد الشعب المصري بالساعات أمام اللجان، وهي صورة عبرت بإيجاز عن نجاح ثورتنا، وتحضر شعبنا، لدرجة أنه لم تسجل مشاجرة واحدة أمام اللجان بين من ينحازون لـ (نعم) ومن حشدوا لـ (لا)، وكنا مجموعة من الأصدقاء، لا يوجد بيننا إسلامي واحد، ومع ذلك كانت المواقف متباينة، ولم يشأ أحدنا أن يقنع الآخر بسلامة موقفه، ولو من باب التسلية ونحن وقوف في الطابور لساعتين، فقد كانت الصورة أهم عندنا من أي نتيجة!

وحتى عندما هتف أحد الشيوخ السلفيين وهو الشيخ محمد حسين يعقوب، الذي كتبت أكثر من مرة ساخرا من أسلوبه الخطابي، بأنها "غزوة الصناديق"، اعتبرت أن ما قاله حتى مع الحدة، انتصارا لفكرة الديمقراطية.

بيد أن "أهل المناحة"، ذهبوا يلطمون الخدود، ويشقون الجيوب، فلم تعجبهم النتيجة، فالشعوب دائما لم تبلغ الرشد الذي يجعلها تقرر مصيرها، وقد أمسكوا بمقولة الشيخ تعبيرا عن الاستدعاء الديني للمجال السياسي، ولم يمنعهم من الاستمرار في "نصب المناحة" أن الشيخ يعقوب اعتذر، وقال إنه كان يمزح، وأنه لا شأن له بالسياسة!

الشعارات الدينية كانت حاضرة في المشهد، وقد كتبت مهاجما لها، فقد قامت دعاية السلفيين بالذات على أن (نعم) هي لله ورسوله، لكن لم تكن (نعم) فقط هي التي جاءت محمولة بالتوجيه الديني، فقد كانت (لا) كذلك، وقد غض أصحاب المناحة الطرف عنها لكني هاجمت الفريقين، فالمسكوت عنه من الجميع، وقد تعرضت له في حينه، أن الكنيسة دفعت في اتجاه (لا) لتصور أن الدستور الحالي عندما يلغى ويوضع دستور جديد، وقبل الانتخابات التي ستأتي حتما بالإسلاميين، فستحذف المادة الثانية الخاصة بأن مبادئ الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع، فكان الخروج المسيحي في هذا اليوم لاسيما في الريف المصري، دافعا لخروج كثيرين دفاعا عن الشريعة!.

وحالة الاستقطاب الديني، لم تخدش الصورة الكلية، لولا أن هناك فريقا يخشى من الانتخابات، لأنه يعيش بعيدا عن الجماهير، فيريد استمرار الأوضاع الحالية، التي جعلت له حضورا في اجتماعات السلطة، يفتقدها عندما يختار الشعب من يعبرون عنه، ولم يكن شيء من هذا يشغلني، فكتبت أعترف بالهزيمة وبعظمة الشعب.

كان يمكن الآن أن "أعيش اللحظة"، بلغة السكارى، وأدعي الحكمة بأثر رجعي، فقد كنت مع مبدأ الدستور (أولا) ومن ثم فقد قمت بالتصويت بـ (لا) على التعديلات الدستورية، ودعوت لذلك وموقفي معلن ومنشور، ولاسيما وأن الطرف الذي قال (نعم) عينه مكسورة، وكأنه ضبط ملتبسا بالخطيئة، فلا يرد ولا يصد، وهو مستسلم أمام حكماء العصر والزمان!

لكني مع كل هذا أعترف، أن فكرة (الدستور أولا) كانت مدفوعة بمراهقة سياسية، تقوم على الاعتقاد بأن المجلس العسكري لن يستمر في الحكم، وقد أثبتت الأيام أن هذا لم يكن صحيحا، فقد أخلف وعده الذي قطعه بأن المرحلة الانتقالية لن تستمر أكثر من ستة أشهر، فاستمر أكثر من عام ونصف العام، وعندما دعا للانتخابات مدفوعا بغضب شعبي جارف، ومضطرا لذلك، وأجرى انتخابات مجلس الشعب قال إن السلطة التنفيذية ما تزال معه، وعندما تم انتخاب رئيس الدولة، كان قد حل البرلمان ليستمر في الحكم، باعتباره وإن فقد السلطة التنفيذية فقد عادت السلطة التشريعية لعصمته!.

كما ثبت باليقين، أنه لم يكن بإمكاننا أن نضع دستورا مدنيا، ننهي به حكم العسكر، وقد كنا سنتحسر على دستور 1971، لأنه لا توجد به نصوص تكرس هذا الحكم، وثبت باليقين أن قوى الفشل السياسي لم تكن تمانع في هذا الوجود بل كانت تدفع إليه، وقد انتهى الحوار الوطني إلى أن القوات المسلحة هي المنوط بها الحفاظ على الدولة المدنية، وكان المجلس العسكري ينتظر أن يوضع الدستور في ظل حكمه حتى يضع هذا النص المعيب، ليتم تمكينه دستوريا من الانقلاب على إرادة الشعب كلما أراد، بحجة الحفاظ على الدولة المدنية!

كانت قوى النضال الفاشل، لا تؤمن بإرادة الشعوب، ومن ثم فقد كانت تبحث عن قوة غاشمة، لا للحفاظ على الدولة المدنية، وإنما لتضمن لها وجودا تحت الشمس!

وليس صحيحا أن نتيجة استفتاء (19 مارس) هي ثمرة تحالف العسكر مع الإخوان ضد الثورة، فالشاهد أن الذين يسمون أنفسهم قوى الثورة تواطؤوا مع العسكر مبكرا وخيانتهم للثورة ومبادئها مثبت بالصوت والصورة، وليس صحيحا أن المجلس العسكري كان ضد مبدأ (الدستور أولا)، فقد كان يريد أن يضع الدستور في ظل وجوده في السلطة لكي يهيمن على نصوصه، ألا وأنه قد خسر بنتيجة الاستفتاء فقد كان يظن قادته أن الفرصة ما تزال سانحة ما داموا في السلطة، وجاءت "وثيقة السلمي" لتمكن العسكر من الحكم بنصوص الدستور!

وقد سقطت دولة الإخوان وليس في أيديهم من دنيا أريدها، فقد كانوا الأكثر وعيا وهم يعملون من أجل ألا يوضع الدستور في ظل وجود العسكر في السلطة، لأنهم يعلمون أن الحكماء بأثر رجعي متواطئون مع استمرار نفوذ العسكر لأنه الضامن لحضورهم في المشهد وتخطيهم الرقاب.

لو كسبت (لا) في استفتاء (مارس) لكان عبد الفتاح السيسي الآن رئيسا لمصر بمقتضى الدستور، ولما أمكن لنا أن نصفه بقائد الانقلاب العسكري!

ويا عقلاء الأمة: "فضوها سيرة" ثكلتكم أمهاتكم جميعا.