كتب

التجربة اليابانية.. دراسة في أسس النموذج النهضوي

كتاب اليابان نهضة الحضارة
تُمثل التجربة النهضوية اليابانية نموذجا ملهما للشعوب التي ما زالت ترزح تحت أغلال التخلف والضعف والانكسار الحضاري، إذ استطاع اليابانيون بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية، الإقلاع بتجربتهم النهضوية الصناعية، لينافسوا الدول الغربية الصناعية، بل ويتفوقوا عليها في مجالات صناعية مختلفة ومتعددة.
 
وهنا تأتي المقارنة بين النموذج الياباني في تجربته النهضوية الرائدة، وبين الدول العربية التي عجزت عن اجتراح نموذجها النهضوي الخاص بها، ما أبقاها إلى يومنا هذا في دائرة الدول المستهلكة التي تقتات على منتجات الدول الصناعية المتقدمة، فلماذا فعلها اليابانيون وعجز العرب عن فعل ذلك مع امتلاكهم ثروات مالية ضخمة، وموارد طبيعية هامة؟

يسعى الباحث المغربي سليمان بونعمان في كتابه "التجربة اليابانية: دراسة في أسس النموذج النهضوي" إلى استكشاف العوامل التي أنجحت التجربة النهضوية اليابانية، ليس لاستنساخها بطبيعة الحال، بل لتحليل الأسس التي تمكن اليابانيون من بناء نموذجهم النهضوي بالاستناد إليها، لاستلهام تلك التجربة، بالوقوف على خلفياتها وجذورها التاريخية، ومعرفة مساراتها الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي أنضجت بتراكماتها الشروط الحضارية للتجربة اليابانية. 

رصد بونعمان في تفكيكه "للمقاربات المنهجية والرؤى والدراسات التي تعاطت مع التجربة اليابانية"، مقاربتين طغت على غالبية الدراسات المنجزة في دراسة النموذج النهضوي الياباني، هما: (المقاربة الانبهارية) و (المقاربة التبسيطية الاختزالية)، فبينما "تُدرج معظم الدراسات المهتمة بتجربة التفوق الاقتصادي الياباني في إطار مقولة "المعجزة الخارقة" التي ليس بإمكانها أن تتكرر أبدا، أي موقف الانبهار منها، فقد سعت المقاربة الثانية "لتأسيس المحتوى العملي قبل تحديد المحتوى الحضاري، حيث تعجز هذه المقاربة عن تجريد المحتوى الحضاري وتفكيك مرجعياته ومفاهيمه الحاكمه".

ولأن المؤلف اعتبر المقاربتين السابقتين قاصرتين عن تحليل التجربة اليابانية، وفهمها بعمق، فقد اعتمد ما أسماه بـ"المقاربة الحضارية المركبة النسبية"، التي تحاول تجاوز المنظور الانبهاري الاستثنائي، والمقاربة التبسيطية الأحادية في تفسير نهضة اليابان، إلى طرح جدلية جديدة تتفاعل فيها خصوصية الظاهرة النهضوية، وتعقد الواقع التاريخي والجغرافي والسياق الحضاري لليابان.. "كما إنها تطرح كذلك (نسبية التجربة) باعتبارها تجربة لها سلبياتها وإيجابياتها وتخضع لسنن بناء الحضارات وتأسيس العمران البشري وقوانينهما". 

إرهاصات النهضة اليابانية: جذورها وتاريخها

خلافا لأولئك الذين يشخصون تجربة النهوض اليابانية على أنها مجرد انبثاق مفاجئ مع حركة الميجي (الفترة الأولى من تاريخ اليابان المعاصر 1868- 1912، وتعني الحكومة المستنيرة)، فإن المؤلف أكدّ أن "لتلك التجربة جذورها النهضوية العميقة، وسياقها التاريخي الفريد، وعناصرها الكامنة الممتدة طيلة فترة توكوغاوا، حيث شهدت القرون الثلاثة السابقة على عهد الميجي (1568– 1868م) تطورات نوعية، وتراكمات حضارية هامة، أضفت عليها طابع الخصوصية والتفرد والتميز، فقد شكلت هذه الفترة الزمنية منذ القرن السادس عشر القاعدة الأساس للنهضة اليابانية في مطلع القرن التاسع عشر".

أفضى ذلك الاحتفاء بتاريخية النهضة اليابانية إلى حمل المؤلف على "تجاوز مقاربة تفسير نجاح اليابان المرتكزة على طبيعة قادة الإصلاح ونوعية قراراتهم، أو الاقتصار على ظرفية القرن التاسع عشر فقط، إذ إن الأمر أعمق من ذلك فلولا وجود أرضية خصبة وسيرورة تشكلت منذ قرون، لما وجد مثل أولئك الزعماء، وما أثمرت جهود الإصلاح، فالتاريخ الياباني لا يجد مفاتيح فهمه إلا في التاريخ الياباني نفسه..". 

فنجاح التجربة اليابانية -وفقا لبونعمان- "هو حصيلة مركبة ومعقدة من التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية والحضارية التي عرفتها اليابان منذ القرن السابع عشر على الأقل، التي هيّأت الظروف التاريخية، وأنضجت الشروط الحضارية للنهضة اليابانية. 

ولفت المؤلف إلى أن "العديد من الدراسات المهتمة بالتجربة اليابانية خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية تناولت مركزية مرحلة توكوغاوا (أسرة يابانية حكمت اليابان خلال المدة 1603– 1867م)، في الإقلاع باليابان، كما استعاد الحقل الأكاديمي والفكري والتاريخي التركيز على الدور الحاسم لهذه الفترة في التأسيس لنهضة اليابان..". 

واهتم الباحثون بكشف منجزات هذه المرحلة وخصائصها وأدوارها في النهضة اليابانية، التي شهدت تطورا بارزا في المجال الاقتصادي لا يقل أهمية عما شهده الغرب في المرحلة نفسها، وبلغت الثقافة اليابانية ذروة تألقها، لم يعد بالإمكان معها القول إن "النهضة اليابانية قد انطلقت في عصر الميجي دون إبراز البنيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية الحاضنة لتلك النهضة، ذات الجذور العميقة في مرحلة توكوغاوا".

وتحدث المؤلف عن الجهود الفائقة في عصر (توكوغاوا) الرامية إلى انتشار التعليم، الذي هو أحد أهم المنجزات التي تحقق في ذلك العصر، الذي شهد "قفزة نوعية لم يشهد لها مثيل في تاريخ اليابان قبل عصر الميجي، حيث هدفت السياسية التعليمية في عصر توكوغاوا إلى التركيز على الجانب القيمي والأخلاقي في تكوين الساموراي (المحاربين القدامى)، وترسيخ مبادئ الفلسفة الكونفوشيوسية".
 
جدلية الانفتاح والانغلاق في الثقافة اليابانية


تمتاز الثقافة اليابانية بأنها ثقافة منفتحة على ثقافات الآخرين، مع محافظتها على قيمها ومبادئها وأصولها، ويخلص المؤلف إلى أن "تعاطي اليابانيين مع علوم الآخر وثقافته اتسم في عصر توكوغاوا بظاهرتين: الأولى- هي السعي نحو امتلاك المعرفة من خلال اكتساب المعارف الصينية ابتداء من القرن الخامس، وعلى المعارف الغربية ابتداء من القرن الثامن عشر رغم سياسة  العزلة. أما الثانية فهي الحس العملي في طريقة التعامل مع الآخر سواء مع المعارف الصينية أم الغربية..".

ويمتاز اليابانيون في تواصلهم مع ثقافة الآخر والإفادة منها بالمرونة والديناميكية، فقد "اندفع اليانيون إلى الأخذ بمكونات الثقافة الصينية في حدود ما يفيدهم، وعندما تبين لهم في القرن الثامن عشر أن المعارف الغربية أكثر تطورا من المعارف الصينية تخلوا عنها، وأقبلوا على تعلم اللغة الهولندية وترجمة الكتب التي رأوا فيها فائدة، والملاحظ أن ثقافة الآخر تظل دائما غريبة وغير متأصلة فيها لما يربو على 1200 سنة، فإنها ظلت تعتبر ثقافة وافدة، والأمر نفسه يصدق اليوم على الثقافة الغربية".

وأوضح المؤلف أنه ينبغي "التمييز بين بعدين مختلفين هما: اهتمام اليابان المبكر بالعلوم والتقانة الغربية واستيعابها السريع لها، وبين التطور التلقائي والذاتي تماما للاقتصاد اليابان في القرنين السابع والثامن عشر، ومنذ فترة مبكرة ترجع إلى القرن السادس عشر كان زوار اليابان من الأوروبيين يرون ما لمسوه من شغف ياباني شديد بالحضارة  الأوروبية..". 

وتوقف المؤلف مطولا عند ما أسماه "دور العزلة الطوعية في نهضة اليابان"، وهي السياسة التي جاءت كردة فعل على ما قام به مبشرون مسيحيون بتنصير ما يزيد على ثلاثمئة ألف ياباني وبعض قادة الساموراي، وهي نسبة مهمة قياسا إلى سكان اليابان القليلي العدد في مطلع القرن السابع عشر، "ما جعل الحكومة اليابانية تتخذ قرارا صارما بحظر الديانة المسيحية في اليابان العام 1637، وتخوض حرب تصفية دموية ضد اليابانيين المتنصرين وتغلق الموانئ البحرية أمام التجارة الأوروبية، لتدخل في عزلة طوعية دامت أكثر من قرنين حتى أواسط التاسع عشر". 

يرصد المؤلف آثار تلك العزلة الطوعية عن العالم الخارجي (1637– 1753) على اليابان، بأن تلك المرحلة شهدت "ولادة وتطور الوحدة السياسية والإدارية القومية في اليابان على قاعدة سلطة مركزية صارمة من جهة، ونظام للقيم تمسكت به الطبقة العسكرية اليابانية بقيادة الحاكم العسكري العام أو الشوغون من جهة أخرى".

وشهدت تلك المرحلة بحسب بونعمان "الكثير من الإيجابيات التي ترسخت تباعا طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر حتى تبلورت بشكلها النهائي في النصف الأول من القرن التاسع عشر. بل إن هذه المرحلة كانت ضرورية لليابانيين حتى يكتشفوا ذاتهم ويعرفوا أماكن ضعفهم فيقوموها، ويصقلوا ما لديهم من خصوصية ثقافية".

أسس النهضة اليابانية.. وشروط النهضة

أشار بونعمان إلى أن سنوات 1853- 1867م، "تُعد الأكثر خطورة في تاريخ اليابان الحديث والمعاصر، فقد قدم الكومندور الأمريكي بيري إنذارا إلى اليابانيين بتاريخ 14 تموز/ يوليو 1853م قضى بفتح الموانئ اليابانية فورا أمام الملاحة الدولية، سلما أو بالقوة، وأجبرت اليابان على توقيع اتفاقيات مذلة ومجحفة بحق اليابانيين بدأت باتفاقية كاناغوا للصداقة مع الولايات المتحدة الأمريكية في 31 آذار/ مارس 1854م، وألحقت بها اتفاقيات مشابهة مع دول أوروبية عدة". 

شكّل إنذار بيري عام 1853م، نقطة تحول في تاريخ اليابان المعاصر، تنبّه فيه اليابانيون حكومة وشعبا، إلى مخاطر الغزو الخارجي الوشيك من جهة، كما اختبروا أيضا قدرة البنى الداخلية اليابانية على مواجهة ذلك الغزو قبل وقوعه من جهة أخرى، فاختاروا دون تردد، العمل على تصليب الجبهة الداخلية وتماسكها بحيث تعجز القوى الأجنبية عن اختراقها. 

ووفقا للكتاب، فقد "كانت أولى الخطوات العملية في هذا المجال إنهاء حكم أسرة توكوغاوا سلميا، لتنتهي معها عزلة شبة تامة استمرت قرابة 250 عاما عن العالم الخارجي، والالتفاف حول الإمبراطور الميجي، والاشتغال الجدّي لبناء مجتمع عصري قادر على المجابهة على جميع الصعد العسكرية، والسياسية، والثقافية، والاقتصادية، وغيرها..". 

وأكد المؤلف أن المعرفة هي أساس النهضة والتحرر، وقد مثّل الرهان على الجانب المعرفي في البناء الحضاري، أحد مرتكزات نهضة اليابان الأولى في عصر الميجي، فقد وعت النخبة الإصلاحية مركزية العلم والمعرفة في تأسيس انطلاقة جديدة لليابان، تستند على نمط التأسيس العلمي للنهضة، فلا يمكن لأي مجتمع أن يحقق نهضة حضارية إلا انطلاقا من "أسس فكرية" يشترك في تحقيقها ويتبناها، كافة أو غالبية أفراد المجتمع. 

واعترافا بفضل الثورة التعليمية والمعرفية العصرية التي اجتاحت اليابان، فقد وصفها إمبراطور اليابان عندما سئل عن أهم أسباب تقدم دولته في هذا الوقت القصير بقوله: "بدأنا من حيث ما انتهى منه الآخرون، وتعلمنا من أخطائهم، وأعطينا المعلم حصانة الدبلوماسي وراتب الوزير".

لقد لعب النظام التعليمي الياباني دورا أساسيا ومركزيا في نهضة اليابان، وهذا ما أشار إليه أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد (Edwin Resichauer) معلقا على ذلك بقوله "ليس هناك شيء أكثر أهمية وأدعى إلى الاعتراف من أنه خلف نجاح المجتمع الياباني من نظامه التعليمي".

وكذلك كان الإنسان الياباني متميزا في تعلمه وتفانيه في إتقان أسرار الصناعات، وعندما سئل الاقتصادي الياباني "دوكو" عن عبقرية الإنسان الياباني وعلاقته بالصناعة، فقد كان رأيه أن "المصانع ليست إلا أسرة، إنها حياة العائلة الواحدة، بكل ما في كلمة العائلة من معنى ريفي قديم، فالمصنع عائلة مرتبطة تماما، وعمال المصانع قد ولدوا ليموتوا في داخله".

هكذا استطاعت اليابان أن تنجز نهضتها الأولى، وكذلك قامت بعد هزيمتها العسكرية في الحرب العالمية الثانية، بإنجاز نهضهتها الثانية، وحفرت اسمها بقوة في عالم الصناعة والتقنية، "وهكذا أثبتت التجربة اليابانية أن الرهان على العنصر البشري تأهيلا وتدريبا وتربية وتعليما هو الأصوب نحو نهضة فاعلة وشاملة، فالإنسان المتعلم والباحث المثقف بأحدث العلوم العصرية والتكنولوجية المتطورة، والإنسان الحامل للقضية الملتحم بذاكرته التاريخية وتراثه الأصيل وانتمائه الحضاري هو القادر على تحقيق النهضة المنشودة في أمة من الأمم".

ولعل من النتائج الهامة التي خلص إليها المؤلف أن اليابان نهضت على أسس ثقافية تكاد تكون مخالفة للمسلمات الثقافية الغربية، فهذا المعطى يحيل على أهمية استصحاب البعد الثقافي في التفسير والتحليل داخل هذه التجربة.. والمطلوب عربيا وإسلاميا وباستحضار شروط النهضة التي بلورها المفكر الجزائري مالك بن نبي هو إنتاج "حداثة عربية إسلامية تنجز تركيبا خلاقا بين القيم الأصلية الإبداعية، موازية محاورة للغرب، لكنها استيعابية تجاوزية تخليقية منتجة للقيم الحضارية والاستقلال الفكري".