كتاب عربي 21

عود على تصريحات رئيس الجمهورية التونسية

1300x600
كانت مساهمتي الأخيرة في برنامج إذاعي تركزت فيه الأسئلة على تصريحات رئيس الجمهورية التونسية التي هاجم فيها حكومات الترويكا واعتبرها هي والإسلام السياسي الذي حكم في نظره خلال السنوات الماضية مسؤولا عن الحالة الاقتصادية المتردية وعن استشراء آفة الإرهاب؟؟

حاول مقدم البرنامج بشتى الوسائل أن يستدرجني إلى مربع الجدل حول هذه التصريحات ليفتك مني إدانة للتصريحات أو لقائلها دون جدوى، فقد اكتفيت بالرد أن للرئيس أن يفعل ما يراه صالحا وفي مصلحة البلاد، سواء من حيث دعم وضعها الاقتصادي أو إصلاح ما فسد من علاقاتها الخارجية.

راسلني أحد الأصدقاء قائلا: "أحييك على شجاعتك بصراحة.. في سياق مؤتمر ليس سهلا أن يصرح قيادي بما صرحت به"...

طبعا صديقنا يستبطن أنني سأدفع الثمن أصواتا في المؤتمر القادم لحركة النهضة باعتبار أني لم أدافع عن الإسلام السياسي الذي تنتمي إليه في نظره، حركة النهضة وباعتبار حالة الاحتقان التي تعيشها قواعدها بسبب الوضعية المستحيلة التي ينتجها تغليب قيادتهم للمصلحة العليا للبلاد وإعطاء الأولوية للاستقرار وترسيخ الديموقراطية في مقابل مشاركة ضعيفة في الحكم لا تمكنهم من الفعل الحقيقي.. فقط تخرجهم في أعين جمهورهم باعتبارهم المساند الرسمي للحكومة دون أي مقابل يذكر.. وباعتبار أيضا المزايدات السياسية التي تسبق هذه المناسبات الانتخابية داخل الأحزاب عادة..

عود على تصريحات الرئيس للصحيفة البحرينية، لم أشأ أن أعلق عليها لأني بالفعل مقدر للجهد الذي تبذله مؤسسة رئاسة الجمهورية في إصلاح الأوضاع بما يسمح بهامش من الاجتهاد، خاصة إذا لم يكن لذلك انعكاسات سلبية على العلاقات بين الفاعلين السياسيين ولأني أيضا أعتبر أن حركة النهضة التي نشأت في نسختها الأولى جماعة حاملة لهمّ الدفاع عن الهوية ومقتصرة عليه، ما جعلها جزءا مما يسمى الإسلام السياسي لا سبيل أمامها للتطور ولاكتساب ثقة الشعب والدولة إلا بالتخلي عن الشعارات الإيديولوجية والتفاعل مع محيطها الوطني والدولي، لتتحول إلى حزب وطني يعتبر الإسلام أحد مكوّنات إجماع واجتماع التونسيين، وهو باعتباره ذلك ملكا لجميع التونسيين بالتساوي، سواء أكانوا يؤمنون به عقيدة أم ينتمون له ثقافة وحضارة، ما يمكنهم من توظيف قيمه والاستفادة منها في برامجهم ورؤاهم دون عقد ولا احتكار من جهة ما.. 

وهو بهذا الاعتبار فوق النزاعات الحزبية والمنافسة السياسية، ذلك أنّ الأحزاب السياسية تُترجم رؤية إنسانية لتنظيم المجتمع وتطويره وليست ترجمة للرسالات السماوية المقدّسة.   

كما رأيت أن الخوض في تصريحات الرئيس من شأنه أن يعود بنا إلى مربع الصراع على الماضي.. من المسؤول عن تردي الأوضاع؟ الذين جاؤوا بعد الثورة يقولون إن بن علي هو المسؤول، طيب ها قد أطاحت به الثورة وسلمت لكم البلاد ماذا فعلتم؟؟؟ والذين أتوا من بعدهم يقولون الترويكا هي السبب، طيب ها هي الترويكا قد ذهبت، ما الذي يعطل العمل؟؟ 

والحقيقة أن الجواب عن هذه الأسئلة معقد وشديد العلاقة بوضعية السياسيين في بلادنا التي توقفت عن إنتاج رجال السياسة منذ سنة 1971 تاريخ أول انشقاق في الحزب الاشتراكي الدستوري عندما ضاق السياسيون ذرعا بتقلص مساحات الحرية داخل الحزب فاختاروا الانسحاب.. لتأسيس الحركة الديمقراطية التي لم تجد طريقها إلى الدولة وبقيت هي والحركة الإسلامية تتراوح علاقتهما معها بين التوجس والعداوة والحرب.. إلى حدود ثورة 17-14 التي أعادت الاعتبار فيما أعادت للسياسة والسياسيين.. 

ولكن، سرعان ما ضيع السياسيون الفرصة بحروبهم الصغيرة التي حولتهم إلى مؤثثين رئيسيين لبرامج الإثارة الإعلامية، وجاذبا للـ audimat وتحولت الأحزاب والشخصيات السياسية إلى ما يشبه البورصة المؤثثة لاستطلاعات الرأي الوهمية.. 

عوض أن يستلم السياسيون عصا السبق التي سلمتها إياهم الثورة لينطلقوا بالبلاد إلى المستقبل غرقوا في قضايا الماضي وأحيوا كل الشياطين القديمة من معارك الحركة الوطنية إلى معارك تأسيس دولة الاستقلال إلى صراعات الهوية.. كل ما أتقنوه خلال صراعهم الطويل مع الاستبداد.. يستعيدونه في انفصام شديد عن مشاغل بلد ثلثا سكانه من الشباب لا تعنيهم مشكلات الماضي، بل تحديات المستقبل، يبحثون في هذا العالم عن مكان بين الأمم الحية التي تمكن أبناؤها من أدوات توفير متطلبات العيش الكريم لأنفسهم.. 

عاد السياسيون سجناء مكروكزماتهم الحزبية الصغيرة لا يخطون خطوة اإا بحسابات دقيقة للتكاليف والمكاسب التنظيمية من ورائها وتأثيرها على حروب التموقع الشرسة داخل أحزابهم، ما جعل من تغليب المصالح العليا للوطن وللبلاد وللشعب على حساب مصلحة الحزب عندما تتباين معها مغامرة غير محسوبة العواقب ومحنة حقيقية للسياسي الوطني.. إذا تواصل هذا السلوك ليس فقط الطبقة السياسية هي التي ستتضرر بل كل التجربة..... لا سمح الله.