قضايا وآراء

هل أنت proxy؟

1300x600
شاع في السياسة مصطلح proxy للدلالة على الجهة أو الشخص الذي يقوم بمهام نيابة عن جهة أخرى، وفي حين أن المعنى الحرفي للكلمة -وهو "الوكيل"- لا يحمل مدلولات سلبية، فإن المعنى الاصطلاحي الدارج يحمل قدراً من التقليل من شأن من يوصف بهذه الصفة، إذ يحمل في طياته معنى "التابع" الذي ينفذ ما يمليه عليه مشغّله بغضّ النظر عن قناعته بهذه المهام من عدمها، وعن تأثيرها سلبا أو إيجابا عليه، وبغض النظر عن مدى صوابيتها وأخلاقيتها، ولسان حال من يطلق هذا الوصف يقول: لا داعي لأن تنظر أو تتكلم مع الوكيل؛ فلا فائدة في ذلك؛ بل تفاهم مع الأصيل الذي يشغل هؤلاء الوكلاء، فهو الذي "يحلّ ويربط".

ومن الأمثلة الجيدة على هذا الموضوع: تورط حزب الله في الحرب في سوريا، خلافا لمصلحته التي تحتم عليه عدم استعداء محيطه السنّي، إضافة إلى كونها استنزافا ماديا وبشريا كبيرا، وحرفا لبوصلة الحزب عن دور مقاومة الاحتلال التي أكسبته الشرعية والرمزية لسنين طويلة، إلا أنه تجاوز عن كل ذلك وخاض غمار حرب وجودية لمصلحة "مشغّله" الإيراني الذي أبلغه بأن موعد سداد فاتورة الدعم قد حان، ولم يجد الحزب مناصاً من أن يدفع الثمن، ولم يلبث تلكؤه طويلا، فاستحق بذلك عن جدارة وصف "proxy".

ومن الأمثلة الأخرى بهذا الشأن اضطرار دولة الاحتلال إلى استكمال حربها على لبنان عام 2006 خلافاً لتقديرها لمصلحتها ولقرارها بإيقاف الحرب، إذ ألزمتها الإدرة الأامريكية بإكمال الحرب لرغبتها في تقليم أظافر حزب الله وتوجيه رسالة ردع لإيران، وفي هذه الحالة عملت "إسرائيل" ك" proxy " للولايات المتحدة، وأثبتت أنها قابلة للعمل كحاملة طائرات أمريكية كما تصف نفسها في بعض الأحيان، ولا يعني هذا أنها كذلك دائما، إذ أن لها من النفوذ والدهاء ما يمكنها من التأثير في مشغّلها في بعض الأحيان وفي بعض الملفات.

هذا على مستوى المنظمات والدول، أما على مستوى الأفراد فإن هذا النمط من العلاقة دارج في المؤسسات عموماً وفي العمل السياسي خصوصاً، إلا أن تشخيص وتقييم هذه العلاقة أمر يتسم بالتعقيد لتداخل عدة عوامل فيه ولتداخله مع أنماط ضرورية أو إيجابية، فمن ناحية يستلزم العمل المؤسسي غالبا وجود هرم إداري وعلاقة "المدير – الموظف" التي تلزم الموظف بطاعة الأوامر بغض النظر عن قناعته بها، تحت طائلة العقوبات الإدارية، وفي هذه الحالة يرى المدير أن لديه الحق الحصري بتقدير "مصلحة العمل" وتقرير الإجراءات اللازمة لتنفيذها، وهذه السلطة بمقدار ما تكون مطلقة وبعيدة عن رقابة جهة مستقلة وموضوعية فإنها تكون مدخلاً للخلط بين مصلحة المدير وشخصه وبين مصلحة العمل، وفي المحصلة فإن المردود إيجابا وسلبا ينعكس على العمل، ولعل هذا الأمر جزء من فلسفة تشكيل مجالس إدارة للشركات وللمؤسسات، وللعرف السائد بالفصل بين منصبي المدير والرئيس في الكثير من المؤسسات. 

وفي حالة العمل السياسي فهو قائم على التكتلات والعمل المشترك الذي يملي أنماطاً من "القيادة – التبعية" بحكم الضرورة، وبذلك فإن الكثيرين يقومون بدور التابع طوعاً أو كرهاً، ويتفاوت القادة في أنماط القيادة و"صناعة الولاء"، فنجد البعض يجمع مناصريه حول الفكرة، فيما يلجأ الكثيون إلى جمع الأتباع حول شخصه، ولعلم هؤلاء بمدى وهن هذا الرابط فإنهم يلجؤون إلى العديد من "التكنيكات" التي تستديم حالة التبعية.

وقد أنتج تاريخ الاستبداد الحديث والقديم لدى أمتنا تراثا زاخرا بهذه الطرق، بحيث أصبحت جزءا من الثقافة السياسية الدارجة في مجتمعاتنا، وقد شهدت شعوب المنطقة على مدى العقود الماضية تسخير مؤسسات الدولة ومواردها لجمع قطاع من الشعب حول الزعيم الفرد الملهم، ولأداء هذه المهمة كان يلزم على الدوام وجود جيش من الأتباع الذين يديرون هذه الماكينة الضخمة، وفي حين يستأثر الزعيم والقليل من "مقاولي الولاء" بتوجيه دفة الأحداث؛ فإن الغالبية الساحقة من الأتباع تترتب ضمن درجات من التبعية بحيث تخدم كل مجموعة فردا من الطبقة التي فوقها، وهكذا دواليك.

وفي ظل هذا النظام "السياسي- الاجتماعي" تزدهر صناعة تفريغ الأفراد من ذواتهم بما يؤهلهم للدوران في فلك غيرهم، وتبدأ سلسلة التفريغ بصناعة الفكر الذي يبرر ويحث على إدامة حالة سيطرة الفرد، بدءاً من نظريات "الحاكم الإله" الذي تعد طاعته طريقا إلى الجنة، ومرورا بفقه الحاكم المتغلب الذي لا يجوز الخروج عليه، وليس انتهاء بالخلط المتعمد بين شخص الحاكم والدولة أو المسؤول والمؤسسة بما يجعل نقد الحاكم "توهينا للحس الوطني" ونقد المسؤول "إضرارا بأهداف ومصالح المؤسسة".

وفي الحلقة الثانية من هذه الصناعة يبرز دور الإعلام والاتصال بمختلف أشكاله -المباشرة وغير المباشرة-، حيث يتلقف فكر الاستبداد ويلونه بالأصباغ والمساحيق، ويروّجه للجمهور. ومن أبرز أساليبه صناعة صورة "القائد الرمز"، التي تجعل طاعته واتّباعه أمرا مفهوما بصفته ذو مستوى أعلى من بقية الناس الطبيعيين.

كما تقوم أطراف أخرى كرجال السياسة وأجهزة الأمن بدور مشهود بهذا الشأن، حيث يبرع أفرادها في البحث عن نقاط الضعف البشرية، والضغط عليها بالكثير من أساليب الترغيب والترهيب التي يعرفها الجميع، وصولا إلى إنتاج طبقة نخبوية توفر احتياجات النظام في العديد من الجوانب، بغض النظر عن قناعتها به وعن مدى أخلاقية الأدوار المنوطة بهم.

وفي ظل الاستخدام المكثف لهذه الأساليب، وتغلغلها في ثقافة شعوب المنطقة لم تسلم منها حتى حركات التغيير والإصلاح في البلدان العربية، إذ ظل نمط "الزعيم الرمز" سائداً في الحركات الإسلامية والقومية واليسارية العربية، وعانت الثورة الفلسطينية مبكراً مما يسميه بعض ابنائها "الاستزلام"؛ أي صناعة "الأزلام" أو أشباه الرجال المصَممين ليدوروا في فلك القائد، وذلك بشراء ذممهم، أو رفع أشخاص ذوي مؤهلات ضعيفة إلى مستويات إدارية عالية بحيث يدركون أن الفضل في وجودهم في مناصبهم يرجع حصرا إلى رضى ورغبة الزعيم، وهو ما يبقيهم دائماً على أهبة الاستعداد لتبية رغبات وليّ نعمتهم وتبرير نزواته.

ويبرز ضرر هذا النمط من العلاقة بأبشع أشكاله في المجالس التشريع أو الشورى، والتي تكون علة وجودها  وانتخاب أعضائها هو إبداء الرأي الحرّ فيما يعرض من تحديات ومستجدات، إلا أن نمط التبعية يجعل رأي وموقف الكثيرين معلّق على رأي وموقف غيرهم، فتراهم يترقبون موقف زعيمهم ولا يجرؤون على إبداء رأي قبل صدور رأيه، وهو ما يجعلهم رقماً لا مبرر حقيقي لوجوده داخل هذا المجلس، ويعطل دور الشورى ويجعلها اسما يفتقر إلى المعنى.

وفي مواجهة معضلة هذا النوع من العلاقة نرى أن الإسلام أسّس العديد من القواعد التي تحاصرها، إذ قرّر الله عز وجل مبدأ المسؤولية الفردية، فقال "وكلكم آتيه يوم القيامة فردا" فلن يغني مسؤول عن تابع أمام الله عز وجل، بل نصّ على أن من ينفذ الأوامر في معصية الله سينال عقابه، فقال"إن فرعون وهامان وجنودهما كانو خاطئين"، وقال "فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم"، وألزم المسلمين بتأدية الشهادة فقال "ومن يكتمها فإنه آثمٌ قلبه"،-ومعلوم أن معنى الشهادة واسع ولا يقتصر على أدائها أمام المحكمة، بل إن إبداء الرأي في كثير من الأحيان شهادة، وهى عن كتمان العلم فقال " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتو الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه" .

كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم طاعة المخلوق في معصية الخالق، وهو ما وعاه أبا بكر فقال "أطيعوني ما أطعت الله فيكم"، وهذا يقتضي من الرعية التقييم الدائم لما يصدر عن القائد والاستيضاح حين يشكل عليه فهم أمر ما، حتى تبرأ ذممهم من إثم المشاركة في الخطأ أو المعصية والظلم.

ومن الواضح أن نمط العلاقة الذي يتضمن رقابة على الحاكم والمسؤول ليس نمط تبعية له، فلا يستطيع القيام بهذا الدور إلا فرد مرتبط بخالقه رغباً ورهباً، يؤمن بأن لا نافع ولا ضار إلا الله عز وجل؛ فيكسر بذلك فكّي الكماشة التي تعترض طريق نزاهة مواقفه: الترغيب والترهيب.

إن التمييز الواضح بين نمط التراتبية الإدارية والتعاون والتحالف السياسي من جهة، وبين نمط التبعية غير المبصرة أو غير النزيهة من جهة أخرى، وترشيد النمط الأول وإدانة وعزل النمط الثاني، يعدّ متطلبا أساسيا لنهضة الأمة وتقدم شعوبها ودولها ومؤسساتها.