قضايا وآراء

جيوش وشعوب.. العشرية السوداء أنموذجا

1300x600
لم تفاجئني قرارات الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الأخيرة، التي قلصت إلى درجة كبيرة دور الجنرالات في الحياة السياسية، وأتصور أنه منذ مجيئه إلى السلطة في عام 1999م، وهو يرتب لهذه المواجهة التي كانت حتمية.

لكنه وهو رجل الدولة العتيد (تقلد الوزارة في الخامسة والعشرين من عمره)، كان يرتب للأمور ترتيباتها ويربط لها تربيطاتها. وأتصور أيضا أنه كان على علم كاف بأن ما حدث في الجزائر في العقود الثلاثة الماضية كان بالإمكان ألا يحدث بل كان من الضرورة ألا يحدث. 

لكن المؤسسة العسكرية بكل فروعها الاستخباراتية والأمنية -وكما هو الحال في كل الدول العربية بعد الاستقلال- هذه المؤسسة الوطنية أصبحت صورة وطنية من الاحتلالات الأجنبية!

وأصبحت صورة جمهورية من الاستبدادات الملكية! التي كانت ترى الشعوب (ما أنتم إلا عبيد إحساناتنا)، كما قال الخديوي توفيق. الطريف أنه قالها لقائد عسكري (أحمد عرابي)، ثم ما لبثت الجملة ذاتها أن انتقلت إلى أفواه كثيرة، ولكن بصياغات متنوعة ومتعددة.

ومن يقرأ مذكرات صلاح الشاهد كبير الأمناء في رئاسة الجمهورية بعد حركة الجيش 1952، ومدير مكتب رئيس الوزراء النحاس باشا، ومن جاءوا بعده قبل الحركة، لا يلبث طويلا إلا ويخرج بهذا الاستنتاج، ولنا عودة لما قاله صلاح الشاهد (ذكرياتي في عهدين).

لكن ما حكاه الضابط الجزائري (حبيب بن سويدية) عن دور المؤسسة العسكرية في هزيمة الشعب الجزائري وعقابه بعد الانتخابات التي فازت فيها جبهة الإنقاذ.

ما رواه لنا الضابط الجزائرى جدير بأن نتأمله ونحكيه ونعيد روايته المرة تلو المرة، حتى تستطيع الشعوب العربية أن تحل تلك العقد المستحكمة بين الجيوش والشعوب.

الكتاب صدر في عام 2001م بعنوان (الحرب القذرة- شهادة ضابط سابق في القوات الجزائرية الخاصة 1992-2000) يقول مقدم الكتاب (فرديناندو أمبوزيماتو) وهو قاضي تحقيق سابق في محكمة النقض العليا في إيطاليا، إنه اهتم لسنين عديدة بملفات الإرهاب، ولكنه عندما قرأ كتاب (الحرب القذرة) اكتشف الفارق الشاسع بين الواقع الجزائري والطريقة التي قدمت بها وسائل الإعلام عمليات القتل اليومية بحق مواطنين عزل، ونساء وأطفال هي بالنسبة لغالبية الأوروبيين من عمل إرهابيين إسلاميين متعصبين ودمويين.

أما هو فلم يشك قط بأن أجهزة مؤسسات الوقاية والقمع متورطة في هذه المجازر.

ويضيف الرجل أن إظهار الحقيقة واجب أخلاقي وحقيقة تاريخية وشهادة (حبيب سويدية) عالية المصداقية لسببين: الأول أن دقة الأحداث التي يرويها كبيرة إلى درجة يصعب معها التصديق بأنه اختلقها والثاني أن كل ما يرويه متناغم بصورة مطلقة مع ما نقله مراقبون مهتمون بالواقع الجزائري (منظمة العفو الدولية - مراسلون بلا حدود).

الجديد الذي أتى به الكتاب هو أنه يبين للمرة الأولى من الداخل العمل المحدد الذي يقوم به الجهاز العسكري ومنظمات الأمن الجزائرية التي بقيت حتى ذلك الوقت (مخفية) إلى أقصى حد.

يقول الكاتب: على إثر الفوز الكبير للإسلاميين في الانتخابات المحلية عام 1990 الذي عكس في جانب منه ضيق الناس من حكم الحزب الواحد طيلة الأعوام الثلاثين الماضية ومن الفساد والإهمال والفقر.. بادر الجيش إلى خلع رئيس الوزراء (مولود حمروش) واعتقال الشيخين (عباسي مدني) و(علي بلحاج) لتتصاعد الأحداث وتنزلق الجزائر إلى دوامة العنف.

ثم بدأ القمع يأخذ منحنى علنيا واضحا ومخيفا مع بداية عام 1992، فقد اعتقل آلاف الشباب وأرسلوا إلى سجون في جنوب الجزائر (8 آلاف شاب) وأُعدم المئات بالرصاص، وأُحرق العشرات أحياء.. فهم الناس فيما بعد أن المعتقلات هي أفضل آلة (لتفريخ العنف المضاد).

وكان الجيش يعرف ذلك، بل ويتعمد ذلك.. كان الهاربون من القتل والحرق والاعتقال سواء من المدنيين أو العسكريين يتجهون لحمل السلاح انتقاما ممن فعل بهم ذلك..

الجيش نفسه كان يسهل هروب هؤلاء.. بل ويدفعهم لحمل السلاح.. كل ذلك كان مطلوبا حتى يعطى قادة الجيش صلاحيات لا محدودة.. في الفتك بالشعب وتطويقه والمحافظة على السلطات والامتيازات اللامحدودة.

يقول الكاتب إنه في عام 1993 بدأت الشكوك تساوره حول الجيش وقصة (الديمقراطية التي يدافع عنها ضد الإسلاميين السيئين الذين يحاولون تدميرها). كنت قد وصلت إلى قناعة بأنه ليس ثمة أي مبرر سياسي أو عسكرى يجيز تعذيب وإعدام المدنيين الأبرياء باسم (الدفاع عن الديمقراطية)!!

يورد المؤلف  ما رآه بدقة عن التعذيب والإعدامات الفورية والتلاعبات والتضليل واغتيال المدنيين، كاشفا الغطاء عن أحد أكثر (المحرمات) في المأساة الجزائرية التي حرصت السلطات على عدم الاقتراب منها وهي الآلية الداخلية لعمل الجيش الجزائري.

ويكشف الكاتب أيضا وقاحة الجنرالات في سوء تقدير العواقب، وحشو الأدمغة، وغسيل المخ الذي يخضعون له جنودهم، وأيضا يأس الجنود المكرهين على القيام بأفعال مروعة.

ويضيف أن هؤلاء الجنرالات لم يريدوا (الدفاع عن الجمهورية) أبدا. لقد أعلنوا الحرب على الشعب الجزائري كله وليس على الإسلاميين. وهي حرب مصالح قذرة دفاعا عن سلطتهم وثرواتهم، ومال النفط الذي يسرقونه منذ سنين من الجزائريين ويريدون توريثه لأبنائهم.

يحكي الكاتب أنه في مارس 1993 جاءته الأوامر بالاستعداد لإحدى المهام المهمة، وهي حراسة شاحنة تقل ما يقرب من 20 فردا من قوات الصاعقة مدججين بالخناجر والقنابل اليدوية والرشاشات ملتحون ويرتدون زيا مدنيا فبدوا مثل الإرهابيين المسلحين.

وكانت الأوامر تقتضى بأن يحرسوهم حتى نقطة معينة في مفترق الطرق ويتوقفوا عند ذلك بينما تكمل الشاحنة طريقها منفردة إلى قرية تسمى (دوار الزعترية) إحدى القرى التي انتخبت (الجبهة الإسلامية) وقت الانتخابات وقد حان وقت العقاب.

ذبح العديد من أهل القرية بلا رحمة، واغتصبت نساؤهم، ونهبت أموالهم، وخرجت الصحف في اليوم التالي تقول (هجوم إرهابي على قرية الزعترية ينجم عنه دزينة من القتلى).

استراتيجية (الحرب القذرة) فكرة تهدف إلى تحقيق الهدف بغض النظر عن الخسائر والضحايا الأبرياء حيث لا تأخذ هذه الأنواع من الحروب في حسابها الخسائر الإنسانية أو الحضارية، ولكنها تركز على سحق العدو لإخضاعه باستخدام القوة التدميرية (المفرطة) التي تهدم المكان و(بنية الإنسان) بل وحتى الحيوان والحياة، بما في ذلك دور العبادة والمقدسات لإرسال رسالة للخصم (أننا جئنا لسحقكم وماضون في ذلك إلى النهاية).

آلاف المواطنين قتلوا، وآلاف غيرهم اعتبروا في عداد المفقودين، وآلاف تعرضوا للتعذيب، وترملت آلاف النساء، وتيتم آلاف الأطفال، ودب الشلل في المجتمع، وحل الدمار في الاقتصاد.

والمؤكد أن الكتاب يقدم جزءا بسيطا فقط من الحقيقة المفجعة التي كانت وراء كل تلك المآسي.

وهكذا يتم تدوير كل الزوايا.. في كل الأوقات، وفي كل الأماكن، لتبقى معضلة (الدولة الحديثة) الوطنية ودور المؤسسة العسكرية في القبض عل مقاليدها، بعد خروج الاحتلال الأجنبي من (أعقد المواجهات التاريخية) التي تشهدها الأمة كلها في العصر الحديث.