قضايا وآراء

مؤتمر النّهضة ورهان التغيير

1300x600
تشهد حركة النهضة التّونسيّة حراكا داخليا كبيرا في سياق الإستعداد لعقد مؤتمر عاشر إستثنائي من حيث تاريخ الإنعقاد ومن حيث القضايا المطروحة على طاولته بُغية البت فيها؛ مُؤتمر أقرّه المُؤتمر السّابق وخصّصه للتّباحث والحسم في مسائل مضمونيّة وهيكليّة فرضها السّياق التاريخي الحالي الذي تمرّ به تونس، مهد الثّورات.

ومن المُنتظر أن يخوض هذا المُؤتمر في تقييم أهمّ المحطّات التي مرّت بها هذه الحركة المُحافظة في فترتي ما قبل الثّورة وما بعدها، للوقوف على الأخطاء التّقديرية والتّسييرية لاستخلاص العبر منها، ولتسليط الضّوء على المكاسب لتثمينها والمُراكمة عليها.

وسيُعيد هذا المُؤتمر النّظر في الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة النهضة التي باتت لا تتلاءم مع التّطوّرات التي شهدتها الأخيرة، فهي ذاتها التي انبنت عليها حركة الإتّجاه الإسلامي منذ سنة 1986، لترثها النّهضة ولتبقى على حالها إلى يوم النّاس هذا، مُسبّبة بمضمونها جُملة من الإحراجات التي طالما أُثيرت كحجّة ضدّها من طرف النّخب المُتوجّسة منها والمُشكّكة في تطوّر خطابها ومُمارستها.

وتُعتبر المسألة الهيكلية المُرتبطة بتجديد تصوّر إدارة المشروع السياسي والإجتماعي والثقافي لحركة النّهضة إحدى أهم المباحث التي سيعكف عليها المُؤتمرون، خاصّة وأنّ الطّابع الشّمولي للحركات المُحافظة أصبح محلّ نقد في زمن الإختصاص، فأن يكون الحزب شمولي الهمّ لا يعني بالضّرورة شموليّة الهيكل أو التّنظيم.

ومع كلّ هذه الملفّات الدّسمة، ومع التّجربة التي حازتها حركة النّهضة التي تجاوزت عقدها الرّابع، ومع تباين التّجارب داخلها كإفراز من إفرازات دولة الإستبداد التي سجنت من سجنت وهجّرت من هجّرت بخصوص رصيدها القديم، إضافة للأجيال الجديدة التي احتضنتها، من المُنتظر أن تتعدّد الرّؤى بتعدّد هذه التّجارب، وهو ما من شأنه أن يُثري النّقاش ويُجوّد المُخرجات، في حال حسُن استثماره.

لا شكّ أن الحاجة للتغيير والتطوير هي اليوم مُشترك أدنى في الذّهنية النهضوية الجامعة، وعند أخذ المسافة الكافية لتحسّس الملفّات في كُلّياتها بعيدا عن متاهات التفاصيل، نجد أن أصل التّمايُز في الأطروحات يعود لمدارس إدارة التغيير التي قد يتبنّاها الفرد بوعي أو بدون وعي، لتُفرز مجموعة من القناعات تتحوّل لزوايا نظر وبالتّالي آراء.

وعند فتح دفاتر علم النّفس الاجتماعي، تعترضنا عديد المُؤلّفات التي اختصّت بدراسة عمليّة التّغيير داخل المُجتمعات والمُنظّمات، فهي عمليّة مُعقّدة بقدر تعقيد الذات البشريّة. كيرت لوين، عالم النفس الأمريكي الألماني الأصل، هو من بين الذين بحثوا في هذا المجال وقدّموا تصوّرهم ورُؤيتهم لهذه العمليّة، واعتبر أنها يجب أن تمُر منهجيّا بثلاثة مراحل أساسية حتى تصل لمُنتهاها.

أولى هذه المراحل، بحسب كيرت، هي "التّهيئة وإذابة الجليد" (Unfreezing Stage)، حيث بيّن من خلال دراسات ميدانيّة أجراها أن التكتّلات البشريّة، سواء المُنظّمات أم المُجتمعات التي نجحت في أن تصمُد وأن تُثبّت عمليّة التّغيير داخلها هي التي أخذت الوقت الكافي من أجل تحقيقه ولم تتبع سياسة حرق المراحل.

ويُشير كيرت إلى أن الأجسام الاجتماعية عادة ما تُواجه صُعوبة في تقبّل التّغيير الفُجئي أو الرّاديكالي فهو يفتح الباب للمجهول ما يُولّد خشية من المُفاجآت ومن الفشل، وهو ما يستوجب ممن يحملون على عاتقهم همّ التّغيير خلق أجواء مُلائمة تُساهم في تخفيف حالة المُقاومة لكلّ ما هو طارئ وجديد، أي إذابة الجليد.

وبالإضافة لتوفير الأرضيّة النّفسيّة، تتضمّن هذه المرحلة زعزعة الأفكار والمُسلّمات والعادات والقيم والمُمارسات السّائدة بهدف فسح الطّريق أمام أخرى جديدة، وتحويل هاجس التّغيير من سمة نُخبويّة ضيّقة لحالة قلق عامّة، وهو ما يدفع كل الجسم لإنتاج الأفكار والآليات الكفيلة بمعالجة هذا القلق. وعادة ما تتكفّل الضّغوط الخارجيّة بهذه الزّعزعة.

بعد توفير كلّ ما سبق، تأتي المرحلة الثّانية وهي "مرحلة التغيير" ( Changing Process)، وهو تنزيل جملة من الإصلاحات تُعالج الهينات التي رصدتها حالة القلق العامّة، وتوكلها لفريق مُتجانس الأفكار تعمل على دعمه من أجل تطبيق برنامجه الإصلاحي؛ عادة ما تمضي هذه الإصلاحات لإجراء تغييرات على مستوى الهيكل التنظيمي سواء من خلال إلغاء بعض الوحدات التنظيمية أو دمجها، أو من خلال إدخال تعديلات على صلاحيات بعض المفاصل التنظيمية، بالإضافة للعمل على بثّ وعي وسلوكيات وربّما قيم جديدة قادرة على ضمان إستمرارية الجسم الإجتماعي مدار التغيير.

ويعتبر كيرت أن عملية التغيير لا تنتهي بإكمال المرحلة الثّانية، بل تحتاج إلى مرحلة ثالثة وهي مرحلة التثبيت والتدعيم (Refreezing)، حيث يحتاج هذا الجسم الذي خضع لعملية التغيير للحفاظ على المُكتسبات التي أفرزتها المراحل السّابقة حتّى تُحقّق التحوّل المنشود، فعدم السّهر على حمايته من أي تشوّه ممكن قد تعيدنا للمرحلة الأولى، وهو ما يستوجب إنشاء لجنة رصد ومتابعة تسهر على تقييم نتائج هذه العمليّة باعتبارها مسارا مُتواصلا  ومتراكما وليس نقطة زمنيّة.

إسقاط نظريّة كيرت لوين في التّغيير على مسار التّطوّر الذي تشهده حركة النّهضة قد يُساهم في إنجاح الأخير؛ رُوّاد التّغيير داخل هذا الحزب المُحافظ يحتاجون لاستحضار أنّهم إزاء جسم اجتماعي تجاوز في عمره الأربعين، وكوّن طيلة هذه السّنوات سلوكات وذهنيّات تحتاج ترفّقا في تغييرها حتّى لا تدفعه للإنكماش في حال لم تتم عمليّة التّهيئة وإذابة الجليد، كما تحتاج لعمليّة مُتابعة حتّى يترسّخ المنشود في هذا الجسم ويتوطّن فيه، ليتحوّل إلى ثقافة سائدة ومُمارسة اعتياديّة.