مقالات مختارة

حل الأزمات ليس بالرجوع إلى الأوهام

1300x600
ليس بمستغرب، وليس بدليل يميز العرب عن سائر خلق الله، أن تنتهي محاولات تفجير وتنظيم ثورات وحراكات الربيع العربي الكبرى إلى حالة الوهن واليأس الذي وصلت إليه في اللحظة العربية الراهنة. ذلك أن تاريخ الإنسانية مملوء بمثل تلك المحاولات ومثل تلك الإخفاقات، في كل مكان وفي كل العصور.
فالمهم ليس حصول الإخفاق، فهذا من طبيعة الاجتماع البشري، ولكن المهم هو منع الاستمرار في الإخفاق من جهة، ومنع حصول إخفاقات جديدة من جهة أخرى. ومن أجل الخروج من الإخفاقات ومنع مزيد منها سيحتاج الشباب والشابات العرب، قادة المستقبل، إلى الذهاب إلى أعماق المسألة السياسية في أرض العرب، والغوص في الأعماق يبرز، من ضمن ما يبرز، الملاحظات التالية:

أولاً- تؤكد الدراسات التاريخية أنه عندما تدخل المجتمعات في أزمة كبيرة ومعقدة وتطال الجميع، حتى في المجتمعات المتقدمة حضارياً، فان أولى الضحايا هي العقلانية. فجأة يفقد المجتمع توازنه الذهني والنفسي، وبدلا من استعمال العقل والمنطق لمواجهة الأزمة، يلجأ إلى وسائل لا منطقية. هذه الوسائل اللا منطقية تكون عادة مختزنة في اللاوعي الجمعي منذ قديم الأزمنة، ولكنها تظهر على السطح إبان الأزمات.

المجتمعات العربية تمرّ الآن بأزمات سياسية واقتصادية وأمنية حادة، الأمر الذي يجعلها قابلة، وهي التي في الأصل تنقصها العقلانية وتهيمن على حياتها الانفعالات والمشاعر غير المنضبطة، لأن تدخل في تلك الدوامة التي وصفناها في الفقرات السابقة.

ثانيا -عندما يفقد المجتمع عقلانيته يفقد معه صبره، فيلجأ إلى وسائل وحلول هي مزيج من الخرافات والأساطير والشعوذة التي عفى عليها الزمن وما عادت صالحة لمواجهة أزمات الحاضر. الخوف هو أن تعود المجتمعات العربية المأزومة إلى أوهام سابقة بها من جديد.

والواقع هو أن هناك العديد من الجهات، وعلى الأخص بعض المنابر الإعلامية المشتراة والخاضعة لأصحاب المصالح، التي تحاول دفع المجتمعات العربية نحو الرجوع لاستعمال بعض الأوهام الماضية التي ثبت في الماضي عدم فاعليتها.

لنأخذ الحملة القائمة على قدم وساق لإقناع الناس بأنهم ليسوا مهيئين بعد للعب أدوار فاعلة ومؤثرة في بناء مؤسسات ديمقراطية قادرة على أن تكون جزءاً أساسياً من سلطة الدولة العربية، وبالتالي فإن المواطنين العرب يجب أن يعودوا إلى قناعاتهم السابقة بضرورة وجود القائد الفرد البطل المخلص الذي هو معبود الجماهير وملهمها. وبمعنى آخر الطلب من المواطنين ألا يمارسوا حمل مسؤولية تسيير أمور مجتمعاتهم التي لا يأتي من ورائها إلا وجع الدماغ والتعب والحياة الجادة.

إن فكرة البطل المنقذ، في شكل إمام، أو خليفة، أو رئيس عشيرة، أو شخصية ساحرة، أو رئيس، قد هيمنت على الحياة السياسية العربية منذ أقدم العصور، وأخطارها في أغلب الأوقات أكثر من مزاياها، بل ويمكن التعايش معها إذا وجد المجتمع النَشط المستقل القادر على محاسبة البطل وجعله خادماً عموميا، وليس سيدا متسلطا.

لكن بالنسبة إلى المجتمعات العربية فإن المطلوب هو بناؤها وتنظيمها لتكون قادرة على الفعل والمراقبة والمحاسبة وممارسة الحرية وحمل المسؤولية، قبل الدخول في دوامة البطولة والأبطال. والأمر نفسه ينطبق على الفرد العربي الذي يحتاج أن يربى على ممارسة الحرية الفردية والاستقلالية الذاتية في الفكر وفي اتخاذ القرار بشأن شتى أمور مجتمعه، إذ إن الأفراد الأحرار المستقلين هم وحدهم القادرون على تكوين مجتمعات حرة مستقلة حاملة لمسؤوليات حياتها.

هناك أمثلة كثيرة أخرى لأنواع من النكوص الذي يمكن أن تعود إليه المجتمعات عندما تدخل في أزمات تجعلها غير قادرة على استعمال العقل والمنطق والحكمة. وعبر كل التاريخ لعب الانتهازيون والزُبونيون أدواراً شريرة لإقناع الناس إبان الأزمات بالرجوع إلى الوسائل القديمة نفسها التي أثبتت فشلها في الماضي. المطلوب من المفكرين والمثقفين من أصحاب الضمائر الالتزام بمساعدة الوطن العربي وأمة العرب على الخروج من الجحيم الذي نعيشه، أن يعرّوا كل محاولة لإرجاع الناس المواطنين إلى استعمال شتى أنواع الأساطير والشعوذات السابقة.

ذلك أن شعارات الربيع العربي، من حرية وكرامة إنسانية وعدالة اجتماعية، كانت قمة العقلانية التي يجب أن تحقق بوسائل عقلانية جديدة خارج أوهام الماضي.

(عن صحيفة الخليج الإماراتية ـ 14 كانون الثاني/ يناير 2016)