قضايا وآراء

ملتفت لا يصل

1300x600
تدلُ الكثرة الواضحة في الأمثال العربية قياسا إلى باقي الأمم - والتي جمعها الحسن العسكري أبو هلال في ثلاث مجلدات باذخات- من ضمن ما تدلّ، على نباهة العرب القدامى وقدرتهم الفائقة على التفاعل والتعبير عن اندهاشهم من انكشافات حقائق الحياة لهم، وتدل أيضا على الإمكانية الكامنة في اللغة العربية على التلاعب بالمجاز وتقليب المعاني على وجوه عدّة.

أقول هذا على الرغم من أنني لست ممن يدعو إلى الانتفاع الدائم من الأمثال في كل حادثة وسياق، لما لذلك من أثر بالغ الضرر على التفكير العلمي للعقل العربي، إذ قد تتحول بعض الأمثال إلى قانون صُلب من قوانين الحياة وسنّة من سننه، وأثر مزعج في أحايين كثيرة على عادات الناس وآدابهم وتعاملاتهم الاجتماعية والاقتصادية فيما بينهم.

من هذه الأمثال، التي تشعر أن قائلها ذو نظرة ثاقبة وواسعة للحياة، ومعبرة عن فراسة العربيّ المفقودة ودهشته من المعرفة غائبة، "ملتفت لا يصل"، ومع أن هذا المثل لا نعرف من قاله بدقة، رغم محاولات المتصوّفة من جعل الوصول هنا هو الوصول إلى الله وأن صاحبه هو الحلاج أو جلال الدين الرومي، ومع ذلك سأعطي الأحقية لنفسي أن أدعي أن هذا المثل قاله عربي محايد. وأنه من المؤكد أن جدّنا العربي لم يكن يعني في قوله هذا معنى فيزيائيا، لكنه ألمح إلى حالة نفسيّة يكون فيها المكثر من الالتفات في تردد دائم وتخوّف على من ترك، مما يُعيقه عن مواصلة المسير في الحياة وتجاوز الأحزان والأطلال و"الزمن المنصرم"!

قام أحد الباحثين بدراسة مُقارِنة بين أكثر الكلمات تداولا في الدول المتقدمة والدول المتخلفة، وذلك على محرّك البحث غوغل، فوجد أن أكثر الكلمات تداولا في الدول المتخلفة - عدا الجنس - لها علاقة ما بالتاريخ، وأن أكثر الكلمات تداولا في الدول المتقدمة - عدا الجنس أيضا (فهذا - ويا للنصر - مما تتقاطع به الدول المتخلفة مع الدول المتقدمة) لها علاقة ما بالمستقبل. لا أدعي أن هناك علاقة جدلية بين التخلف والتاريخ وبين التقدم والمستقبل، فهذا مما يحتاج إلى بحث مفصّل وموضوعي بعد تحرير مصطلحات جدلية أساسا كالتقدم والتخلف.

لكنه يمكنني أن أفترض وأقول، والافتراض مقدمة أوّلية من مقدمات البحث العلمي، بعد تتبع للأحاديث المتداولة بين المثقفين - مما يعبر عن أوهام عميقة لدى المثقف العربي - والنقاشات التي تُخاض في الإعلام الجديد بين الشباب العربي، نجد أن استغراق الذهنية العربية في البحث التاريخي أخذ مدى بعيدا زمنيا وبُعدا لا علميا واضحا، فأدمنا الالتفات إلى التاريخ والالتهاء به، مما يستدعينا لاختراع مصطلح "غزو التاريخ" للتعبير عن ظاهرة الهوس بالقول التاريخي، إما اقتباسا أو إسقاطا أو تلذذا معرفيا صرفا، باجتراره إلى الواقع المُعاش واغتصابه وافتعال اصطفافه إلى صف دون آخر، وتجييره لشرعية سياسية ما أو حالة فكرية وثقافة.

لدينا قدرة مذهلة في العالم العربي، على إسقاط كل أحداث الحاضر إلى أحداث في التاريخ مرّت وانعدمت، مع مرور الزمان وتعاقب التصاريف، كل مبررات قياس التشابه والتماثل فيما بينها، مع أن بعض هذه الإسقاطات تكون واضحة الفساد في القياس ولا معنى لها وليست معبرة وسطحية، فحين تختلف إيران مع الغرب قلنا: فرس وروم، وأخذنا صفنا الذي شرّعه لنا التاريخ، وإذا فتح أردوغان أبوابه للمهاجرين السوريين قلنا: نجاشي زمانه، بل ونرى بعضا ممن يقيسُ دولة حزب العدالة العلمانية إلى دولة النجاشي المسيحية حتى في السياق الفقهي في موقفه من العلماني أردوغان!

لا ينفك الإنسان من أثر ظلال التاريخ عليه، فمنه ينال شرعية وجوده ووقود اندفاعاته وتكوين شخصيّته الثقافية، ولا أطلب منه فك ارتباطه فيه، لكنه، ولسحر التاريخ، إنْ استغرق فيه أسَرَه إلى الأبد، وملك زمام تفكيره وحالته النفسية.

يذكر أحد المؤرخين، وأظنه عبد الله البسام مؤرخ الحنابلة، أن المحدث سليمان بن عبد الله آل الشيخ كان يحفظ رجال الحديث أكثر مما يحفظ رجال الدرعية (بلدته)، ما يعبّر عن حالة انفصال عن المكان وتداخل التاريخي مع الواقعي بشكل يصعب فصله وتفسيره.