بورتريه

القسام ..شهيد سوري رسم طريق المقاومة بفلسطين (بورتريه)

عزالدين القسام - عربي21
على عكس الشائع والمتعارف عليه بأنه شخصية وطنية فلسطينية، لارتباط اسمه بأهم الثورات في فلسطين، وأيضا كون الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" يحمل اسمه، فإن الرجل الذي تصادف هذه الأيام الذكرى 80 لاستشهاده هو سوري من مواليد بلدة جبلة من أعمال اللاذقية عام 1883.

وقالت جريدة الجامعة العربية في عددها الصادر في الثالث من كانون الثاني/ يناير عام 1936: "يحتفل أبناء فلسطين بإحياء ذكرى مجاهد من سوريا الشمالية سقط شهيدا في سبيل استقلال سوريا الجنوبية، وليس ذلك فحسب، بل قاد حملة جهاد لعلها الأولى من نوعها في تاريخ الإسلام الحديث في فلسطين وسوريا والشرق العربي بأسره".

تربى في أسرة كانت تعيش على الكفاف والرضى بالقليل لكن رصيدها من الذكر الحسن كبير، فهي أسرة متدينة، ولها حظ من العلم الشرعي، وكانت عائلته مشهورة بالعلم والصلاح، يعطون ولا يأخذون، ويكسبون قوتهم من عملهم.

لكن المؤرخين اختلفوا في وصف حال عبد القادر القسام الأب، فقالوا: إنه عرف بأنه كان حدادا، وأنه كان تقيا ورعا ملما بأصول الدين، وهذا ما جعله إماما لجامع سوق الحدادين في وسط بلدة جبلة. وقالوا: إنه كان يدير كُتابا لتعليم الصبية تلاوة القرآن ومبادئ الكتابة. وقالوا: إنه كان يملك حاكورة يزرعها بمساعدة أولاده. وقالوا: إنه كان يعمل في أرض الأفندي. وقالوا أيضا: إنه كان يعمل مستنطقا في جبلة، ويقوم بكتابة أوراق النفوس أيام الدولة العثمانية. ويمكن الجمع بين هذه الأقوال: أن هذه الأعمال والوظائف مر بها القسام ولم يجمع بينها، فاشتغل حدادا في زمن، واشتغل مستنطقا في زمن آخر، وكان يعلم الأولاد القرآن في بعض أوقاته، وكان يصلي بالناس في جامع السوق مختارا يقدمه الناس للإمامة إذا حضر.

أمضى محمد عز الدين القسام طفولته في بلدة جبلة، قرأ القرآن الكريم وتعلم القراءة والكتابة والحساب في الكتاتيب، ودرس مبادئ العلوم الشرعية على والده، ولما آنس منه أبوه رغبة في العلم أرسله إلى الأزهر وله من العمر 14 عاما وتخرج من الأزهر عام 1906 بعد أن أمضى نحو ثماني سنوات في الدراسة.

وقد روى عز الدين التنوخي، زميل عز الدين القسام، أن المال نفد منهما وهما في مصر يدرسان في الأزهر، فاقترح القسام أن يعد التنوخي الحلوى (الهريسة أو النمورة) وأن يقوما ببيعها، ليوفرا من ربحها حاجاتهما، ويستغنيا عن سؤال ذوي اليسار من رفاقهما، فاستفظع التنوخي الأمر وقال: "ولكني أخجل ولا أستطيع المناداة"، فأجابه القسام: "أنا أصيح على بضاعتنا"، وبهذه الوسيلة تمكن الاثنان من مواصلة الدراسة.

عاد عزالدين إلى أهله ليدرس في جامع إبراهيم بن أدهم التفسير والحديث، ويلقي الخطب حاضا على التمسك بشعائر الإسلام والأخلاق الإسلامية.

بعد أمد قصير من عودته إلى الأهل جدد القسام العزم على الرحلة، فتوجه إلى إسطنبول، وذلك ليطلع على الأساليب المتبعة في الدروس المسجدية. ولم يطل مقام القسام في البلاد التركية، لأنه شاهد في القرى والمدن التي زارها من الجهل ما روعه، ورأى أن الجهل هو سبب كل تخلف وفساد، فعاد إلى بلدته جبلة وهو عازم على البداية من أول الطريق، وقرر أن يتولى تعليم الأطفال في الصباح، وتعليم الكبار في المساء، ووظف كل طاقته وإمكاناته في التعليم والخطابة.

كانت الدول الأوروبية الاستعمارية تتسابق لبسط سيطرتها على مشرق العرب ومغربهم منذ أواخر القرن التاسع عشر، وكان للقسام دور بارز في الثورة، إذ أخذ يؤثر في جمهور الساحل السوري بغيرته وحماسته وقدرته الخطابية، ويثير دم الأخوة ويفجر العواطف الكامنة، وقد خرج القسام إلى الشوارع يقود الجماهير في جبلة واللاذقية ومدن الساحل وقراه. وعندما تمكن الجند الإيطالي من احتلال ليبيا انتقل القسام من قيادة التظاهرات الشعبية إلى قيادة حملات تجنيد الشباب باسم الجهاد، للدفاع عن شرف المسلمين ومنع نزول المذلة بهم.

تمكن عز الدين القسام من تجنيد مئات الشباب من الساحل السوري، وقادهم بنفسه، وتعهدهم بالتدريب العسكري والفكري، وقام أيضا بحملة لجمع الأموال والمؤن الكافية للنفقة على المتطوعين وأسرهم ولمساعدة المجاهدين في ليبيا. وهناك رواية أخرى تقول: إن عز الدين القسام صمم على لقاء المجاهدين في ليبيا، وأن ينقل إليهم ما استطاع جمعه من معونات مادية، وأنه انتقل سرا إلى الأرض الليبية، وأنه التقى المجاهد الكبير عمر المختار.

احتل الأسطول الفرنسي اللاذقية والساحل السوري في عام 1918، فكان القسام أول من رفع راية مقاومة فرنسا في تلك المنطقة، وأول من حمل السلاح في وجهها، وكان من نتاج دعاياته أن اندلعت نيران الثورة في منطقة صهيون، فكان في طليعة المجاهدين، وكان يقول: "ليس المهم أن ننتصر، المهم قبل كل شيء أن نعطي من أنفسنا الدرس للأمة والأجيال القادمة".

وهناك رواية تقول: إنه قبل سقوط الساحل السوري بيد القوات الفرنسية في عام 1918، باع عز الدين القسام بيته ليشتري بثمنه سلاحا، وتقول الرواية أيضا: إنه باع بيته في جبلة وانتقل إلى الحفة مع زوجته وأولاده.

وقد كان لعصبته الجهادية أثر شديد الوقع على الفرنسيين، فحاولوا إغراءه واستمالته لوقف حركته، فأوفدوا إليه رسولا يحمل رسالة شفوية يدعونه فيها إلى مسالمتهم والكف عن مقاومتهم، وإلى العودة إلى جبلة آمنا، ويعدونه بتعيينه قاضيا شرعيا في المنطقة، ولكنه رفض دعوتهم فلما عجز الفرنسيون عن استمالته وثنيه عن الجهاد، حكم عليه الديوان العرفي فيما كان يسمى "دولة العلويين" بالموت غيابيا، وصدر منشور يضم اسم عز الدين القسام وعددا من المجاهدين.

اتبعت فرنسا أسلوب الأرض المحروقة والبيوت المهدومة لإرهاب سكان الريف والمدن، فانتقل القسام إلى دمشق للدفاع عنها من الاحتلال الفرنسي، ثم غادرها بعد استيلاء الفرنسيين عليها عام 1920، فأقام في حيفا.

عمل مدرسا هناك وتولى الخطابة في جامع الاستقلال في السنة التي تم فيها بناؤه وهي 1925، أعلن القسام في مسجد الاستقلال أن الإنجليز هم رأس البلاء والداء، ويجب توجيه الإمكانات كلها لحربهم وطردهم من فلسطين، قبل أن يتمكنوا من تحقيق وعدهم لليهود (وعد بلفور)، ودعا القسام المسلمين إلى التمرد.

وفي عام 1929، علم أن اليهود يأتمرون للهجوم على جامع الاستقلال، فطلب وجوه المسلمين في حيفا من السلطات البريطانية أن ترسل قوة لحراسة المسجد من الهجوم المدبر، فثار القسام على هذا الاقتراح، وقال في خطاب ألقاه بهذه المناسبة: "إن جوامعنا يحميها المؤمنون منا، إن دمنا هو الذي يحمي مساجدنا لا دم الآخرين"، ووصف الطلب بالجبن.
 
ولما دعته السلطات للتحقيق في كلامه لم ينكره، وعندما أُوقف أعلنت المدينة الإضراب، فاضطرت السلطات البريطانية إلى إخراجه من السجن، وتجنبت حكومة الانتداب اعتقاله فيما بعد. ويروى أنه في إحدى خطبه، كان يخبئ سلاحا تحت ثيابه فرفعه وقال: "من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فليقتن مثل هذا"، فأخذ مباشرة إلى السجن وتظاهر الناس لإخراجه وأضربوا إضرابا عاما.

 وهكذا استطاع القسام في العشر سنوات التي أمضاها في جامع الاستقلال أن يجعل الناس مستعدين لتلبية نداء الجهاد، وصارت الكلمات الجهادية من خطبه على لسان الجمهور، وكان شعار القسام وتلاميذه: "هذا جهاد، نصر أو استشهاد".

كان القسام يختار أعضاء التنظيم السري مستخدما منهجا يعتمد على السرية والدقة والحذر الشديد في اختيار الأنصار، فإذا اطمأن القسام إلى صاحبه، أدخله في حلقة سرية، لا يزيد عدد أفرادها عن خمسة، وكان لكل حلقة نقيب يتولى القيادة والتوجيه.

ولتنظيم أبناء القرى اتبع القسام مبدأ زيارة القرى، وبخاصة القرى التي يسكنها أصدقاؤه في أقضية حيفا والناصرة وجنين، واستفاد القسام من ثورة البراق عام 1929 التي شارك فيها آلاف من الفلسطينيين، وبرز منهم قادة مخلصون، فتوجهت أنظار جماعة القسام إلى هؤلاء لجذبهم إلى التنظيم السري.

وبعد جهود ثلاث سنوات، استطاع القسام تكوين اثنتي عشرة حلقة جهادية تعمل كل واحدة منفصلة عن الأخرى، وتتكون كل خلية من خمسة أفراد، أكثرهم من عمال البناء والسكك الحديدية وعمال الميناء والباعة المتجولين. ثم زاد عدد أفراد الخلية في أوائل الثلاثينيات، فأصبحت تضم تسعة أفراد.

كان بدء المرحلة الجادة في التسلح والتدريب في أواخر عام 1928، عندما خطا اليهود خطوة جريئة حيث تجاوزوا المباح لهم عند حائط البراق، وتداعوا من كل أنحاء فلسطين، وتدفقوا إلى الزيارة آلافا مؤلفة بين مظاهر الحماس والزهو، فأثار هذا المسلمين، وتداعوا إلى حراسة المسجد الأقصى والدفاع عنه، مما دفع جماعة القسام إلى الانتقال من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الإعداد العسكري المسلح.

ثم جاءت ثورة البراق عام 1929 لتعجل بالتحضير العسكري، والانتقال من المرحلة السرية إلى المرحلة العلنية.

طلب القسام العون ممن حوله وقام بالاتصال بكل الملوك والأُمراء والزعامات العربية في ذلك الوقت، حيث اتصل بالملك فيصل في سوريا طلبا لمؤازرته في ثورته، فوعده ولم يثمر وعده عن شيء، واتصل بالحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين الأكبر وطلب منه أن يهيئ الثورة في منطقته، فأجابه بأنه يرى أن تحل قضية فلسطين بالطرق السلمية عن طريق المفاوضات، فما أجابه ولبى نداءه بالدعم والعون إلا راشد بن خزاعي الفريحات، وهو زعيم عربي أردني (1850 - 1957)، وقد اشتهر الخزاعي بمناهضته للانتداب البريطاني في بلاد الشام ودعمه للثورتين الفلسطينية والليبية، ويذكر أن القسام لجأ مرة إلى جبال عجلون مع عدد من الثوار، وكانوا في حماية الخزاعي.

في أوائل عام 1935 رأى القائد القسام أن المستعمر يراقب تحركاتِ القساميين مراقبة دقيقة، وكان القائد يخشى أن يعتقل الإنجليز النخبة الصالحة من إخوانه، فيفسد جميع مخططات العصبة قبل أن تظهر، وكان يرى الخروج إلى الجبال والطواف بالقرى وحثَ المواطنين على شراء السلاح والاستعداد للجهاد.

كانت آخر كلمات قالها القسام في خطبته: "أيها الناس، لقد علمتكم أمور دينكم حتى صار كل واحد منكم عالما بها، وعلمتكم أمور وطنكم حتى وجب عليكم الجهاد، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، فإلى الجهاد أيها المسلمون، إلى الجهاد أيها المسلمون".

وبعد ساعة من إلقاء الخطبة، أخذت السلطة تفتش عنه للقبض عليه ومحاكمته، ولكنه كان قد ودع أهله وإخوانه، وحمل بندقيته، وذهب وصحبه إلى الجبال. وأصح الأقوال في زمن خروجه أنه في ليلة 26 أو 27 من تشرين الأول/أكتوبر عام 1935.

غادر القسام وصحبه حيفا، واتجهوا نحو قضاء جنين، وكان أصحابه في انتظاره في مكان متفق عليه، ويبدو أن الموعد كان في قرية نورس حيث ينتظرهم الشيخ فرحان السعدي، وهناك أقاموا في مغارة في أحد جبال القرية، ثم اتجهوا نحو قرية كفر دان، وكانت الشرطة قد أعلنت عن حوافز مادية لتشجيع القرويين على الإدلاء بمعلومات عنهم، ونشرت الشرطة خبرا يفيد أن المجموعة المطاردة في جبال جنين هي عصابة لصوص، وذلك لتضليل الناس والحصول على معلومات عن تحركها.

وانتقلت الجماعة من كفر دان إلى قرية برقين، ومنها انتقلوا إلى جبال قريتي البارد وكفر قود. ثم اتجهوا نحو خربة الشيخ زيد قرب قرية يعبد.

وأصبحت تحركات الجماعة تلاقي صعوبة شديدة، فقد وصل إلى جنين عدد كبير من رجال المخابرات والجواسيس، وانبثوا بين الناس في قرى القضاء، وكانوا يتخفون في زي عامل في نفسه وصل القسام وصحبه خربة الشيخ زيد، ونزلوا فيها في العشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1935.

وحين عرف القسام أن أفراد الشرطة يقتربون، أعطى للمجاهدين أمرا بألا يطلقوا النار على أفراد الشرطة العرب، وأن يوجهوا رصاصهم إلى الإنجليز، وقد ثبت المجاهدون وأبوا الفرار، وكانوا يستطيعون ذلك، وبدت أمامهم فرصة للنجاة عندما ناداهم الضابط البريطاني: "استسلموا تنجوا"، فأجاب القسام: "لن نستسلم، هذا جهاد في سبيل الله"، ثم هتف بأصحابه: "موتوا شهداء"، فردد الجميع: "الله أكبر الله أكبر".

واستشهد القسام ومن معه في معركة يعبد، فوجدوا في ثيابه مصحفا وأربعة عشر جنيها فقط، وقد قال بعض المؤلفين أن القسام باع بيته في حيفا قبل خروجه، وروي أن القسام لم يكن يمتلك بيتا، وإنما كان يسكن بيتا مستأجرا، وأنه كان يجمع الأموال لشراء الأسلحة.

نقلت جثامين الشهداء من ساحة المعركة إلى جنين، ثم أرسلت إلى حيفا لتسلم إلى ذويها، وصدرت الصحافة المحلية تحمل نبأ وفاة القسام في صفحاتها الأولى، وعندما وصل النبأ إلى الناس أقفلت حيفا محالها، وتدفقت إلى بيت القسام، وجاءت الوفود من جميع أنحاء فلسطين لتشارك في تشييع الجنازة، وأخذت المآذن تزف الخبر في جميع أنحاء البلاد. وحمل الناس نعوش الشهداء، واتجهوا إلى جامع الجرينة (النصر) في وسط حيفا، مخالفين شرط السلطات البريطانية.

كان لمقتل القسام الأثر الأكبر في اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، وكانت نقطة تحول كبيرة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية بعد ذلك، إذ من المؤكد أن أتباع القسام لم يلقوا السلاح بعد مقتله، بل قاموا بتنظيم أنفسهم، وأصبح القائد الخليفة هو الشيخ فرحان السعدي، وبقيادة فرحان السعدي بدأت الثورة الكبرى (1936-1939).

وقد اختارت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الشهيد عز الدين القسام ليكون اسما لجناحها العسكري، وأعلنت كتائب القسام أن هدفها العام هو "تحرير كل فلسطين من الاحتلال الصهيوني الذي يغتصبها عنوة منذ عام 1948".

ولم يكن اسما آخر يتوافق مع هذا المطلب الوطني والقومي الكبير سوى اسم عزالدين القسام، رمز الشهادة والبطولة، ورمز وحدة الوجع والألم والحلم العربي.