قضايا وآراء

اليمن.. ومسارات معركة تحرير تعز الاستراتيجية

1300x600
مؤخرا شرعت قوات التحالف العربي بمعركة تحرير محافظة تعز (وسط اليمن)، بعد مضي أكثر من سبعة أشهر على بدء تدخلها في اليمن، أواخر آذار/ مارس الماضي، على الرغم من الأهمية الاستراتيجية التي تتمتع بها هذه المدينة من عدة جوانب. 

بعد أربعة أشهر تقريبا من القصف الجوي المتواصل، بدأت قوات التحالف العربي، مع أواخر شهر تموز/ يوليو الماضي، بتنفيذ أول عملية عسكرية برية في اليمن، تحت اسم "السهم الذهبي". حققت تلك العملية نجاحا كبيرا وسهلا في تحرير محافظة عدن، وثلاث محافظات جنوبية أخرى محيطة بها. لكنها توقفت فجأة على مشارف محافظة تعز (158 كم/شمال عدن)، ما أثار بعض التساؤلات، وفتح بابا للتكهنات حينها، لاسيما وقد سبق العملية تصريحات لمسئولين عسكريين يمنيين وفي التحالف، من أن "السهم الذهبي" سيواصل انطلاقته نحو تحرير بقية المحافظات الشمالية، بدء بتعز الأقرب والأهم..! 
 إلا أنه وبدلا عن ذلك، انتقل التحالف العربي مباشرة إلى تحرير محافظة مارب النفطية (173 كم/ شرق العاصمة صنعاء). حيث تدفقت تعزيزاته العسكرية النوعية الضخمة، مسنودة بتصريحات تؤكد أن التخطيط يتجه ابعد من مارب، نحو معركة فاصلة في صنعاء. 

وخلال الفترة، منذ ذلك الحين وحتى مطلع هذا الشهر، جرت مياه كثيرة في اليمن، يُعتقد أنها أوصلت التحالف العربي، أخيرا، إلى إعادة النظر بعين الأهمية إلى تحرير محافظة تعز قبل الانتقال إلى معركة صنعاء الفاصلة. 

• الأهمية الاستراتيجية والعسكرية لتعز

أدى توقف "السهم الذهبي" على الحدود الجنوبية لتعز، إلى إثارة بعض ردود الفعل المشككة بأهداف وخطط التحالف، الذي توجه بدلا عن ذلك إلى تحرير محافظة مارب النفطية، التي أعلن الانتهاء من تطهيرها في تشرين أول/ أكتوبر..! 

ولعل التساؤل: لماذا لم يتخذ قرار تحرير تعز مباشرة بعد عدن؟ كان مبعثه مجموعة حقائق ومعطيات استراتيجية وعسكرية وجيوسياسية واجتماعية واقتصادية، تجعل من هذه المعركة ذات أولوية قصوى، نوجز أبرزها على النحو التالي:- 

- موقع استراتيجي هام: أن موقع محافظة تعز يمثل أهمية استراتيجية وعسكرية، من حيث أن: ممر "باب المندب" الدولي الاستراتيجي يتبعها إداريا؛ كما أنها تعتبر البوابة الرئيسية لجنوب اليمن، وبالتالي: حتى يتم تأمين المحافظات الجنوبية المحررة، كليا، لابد أولا من تأمين تعز، كي لا يظل مفتاح هذا الباب الرئيسي بيد الانقلابيين، ما قد يمكنهم في أي لحظة من العودة عبره (في الواقع، كان قد بدأ هذا فعلا، حين شرعت الميليشيات مؤخرا ببعض التحركات العسكرية المقلقة نحو محافظة لحج الجنوبية، وقاعدة العند الجوية الاستراتيجية، عبر هذا الممر الرئيسي)؛ أنها، فضلا عن ذلك، تعتبر أيضا آخر نقطة فاصلة بين المحافظات الجنوبية المحررة، والمحافظات الشمالية الواقعة - شبه كليا - تحت سيطرة الانقلابيين: تحدها من الشرق محافظة إب (63 كم)، ومن الغرب محافظة الحديدة(272 كم)، الواقعتان -وما تليهما من محافظات حتى العاصمة صنعاء- تحت قبضة الميليشيات. وبالتالي فمن المتوقع كثيرا أن تحرير تعز سيفضي حتما إلى بدء انفراط عقد سيطرة الميليشيات على تلك المحافظات، وصولا إلى العاصمة صنعاء. 

- ومن الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية، فإن تعز: تعتبر الأعلى كثافة سكانية في البلاد: يقدر عدد سكانها بأكثر من أربعة ملايين نسمة قياسيا بأخر تعداد سكاني (2004)؛ أن معظم أبناؤها من النخبة وقيادات النخبة، السياسية والمثقفة الأكثر تعليما ووعيا في البلاد، ما يجعلها تمثل ليس قاعدة سياسية مؤثرة فحسب، بل وأيضا حاضنة اجتماعية كبيرة لمقاومة الميليشيات المنقلبة على الدولة وأسسها الديمقراطية؛ إضافة إلى كونها من أكثر المحافظات نشاطا اقتصاديا، حيث تقع فيها معظم المصانع الاستثمارية الكبيرة، وينتمي إليها معظم رجال المال والأعمال والبيوت التجارية الكبيرة في اليمن. 

- خلفية تاريخية ثورية: وفضلا عن كل ذلك، تعتبر تعز: منبع الثورات اليمنية، فمنها انطلقت شرارة ثورة فبراير 2011، ضد نظام المخلوع علي صالح؛ كما أنها المحافظة اليمنية الأولى التي تشكلت فيها مقاومة نوعية مسلحة، ومنظمة، وأكثر تماسكا وقوة ضد الميليشيات الانقلابية عقب انقلابها الأخير، مباشرة. وذلك على عكس معظم المحافظات الأخرى التي سيطرت عليها الميليشيات بدون أي مقاومة تذكر؛ أضف إلى ذلك أن الانقلابيون فيها لا يسيطرون سوى مساحات بسيطة تتركز في أطرافها، وبشكل أكثر تحديدا: مدخليها الرئيسيين (الشرقي والغربي)، ما يجعل من عملية تحريرها أكثر سهولة وأقل كلفة، لاسيما وأن قيادة المقاومة فيها لا تطالب سوى بدعم نوعي في العتاد والآلات العسكرية..

• لماذا ظلت تعز خارج الخطة؟

لكن مع كل ذلك، إلا أن تعز ظلت طوال الفترة الماضية خارج خطة التحالف، أو بدى وكأنها كذلك. الأمر الذي ترك مجالا واسعا للتكهنات بحثا عن إجابات، على رأسها الدوران حول فرضية: أن ثمة أطرافا فاعلة في التحالف تخشى من تحرير تعز، على أساس من تكهنات لم يعلم حتى الآن مدى صوابيتها، أبرزها: أن المقاومة الشعبية بتعز تخضع في معظمها تحت سيطرة فصيل سياسي بعينه، يثير مخاوف بعض الحلفاء، وبالتالي فإمداده بالسلاح النوعي سيزيد من قوته وسيطرته المستقبلية أكثر؛ وبالنسبة لجهات دولية أخرى، هناك من يعتقد أن قلقها مبعثه: بروز جماعات إسلامية متشددة، (كالقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية)، تقاتل تحت لواء المقاومة بتعز، وتتخذها غطاء لتوسيع حضورها؛ كما أن هناك من تكهن أيضا بوجود رغبة لدى التحالف في استنزاف الانقلابيين وقوتهم من خلال استمرار معاركهم بتعز، حيث يتكبدون هناك خسائر فادحة في الأرواح والعتاد.. 

على أن بعض المحللين، كانوا أرجعوا السبب الرئيسي لتأجيل معركة تعز، إلى الطبيعة التضاريسية الجبلية للمدينة، الأمر الذي يتطلب وقتا إضافيا للدراسة وإعداد خطة خاصة ومحكمة تقوم على تدريب قوات متمرسة على الحروب في مثل هذه التضاريس. 

وبعد تحرير عدن ومحيطها، والتوجه مباشرة نحو التجهيز لتحرير مارب، كانت قضية إهمال وتجاهل تعز، قد تحولت تدريجيا إلى قضية رأي عام (تقريبا)، بفعل الضغط الشعبي المتواصل، عززه تصعيد الميليشيات لانتقامها الإجرامي بتكثيف قصفها على المدنيين وفرض حصار مطبق على المدينة، ما وضع قيادات الدولة اليمنية العليا -وبالطبع لم يستثنى من ذلك قيادة التحالف أيضا- في حرج من مسئوليتها. ولمحاولة تفادي ذلك أُطلقت التصريحات تلو الأخرى، سواء من جهة الرئيس ونائبه، أم من جهة قيادات سياسية ودبلوماسية وعسكرية في التحالف، شملت توجيهات بضرورة دعم مقاومة تعز وأهمية العمل على تحريرها. 

لكن تلك التصريحات، بحسب وصف البعض لاحقا: لم تكن سوى (بالونات هوائية)، أو (إبر تخدير)، خصوصا وأنها ظلت تتكرر بين الحين والأخر، حتى ما بعد عودة الرئيس ونائبه إلى عدن ولقائهما هناك بوفد من قيادة المقاومة بتعز (أواخر أيلول/ سبتمبر)، حتى أن الرئيس هادي شدد حينها "على ضرورة تحرير تعز كبوابة لتحرير العاصمة صنعاء وبقية المحافظات في طريق إنهاء الانقلاب".

لماذا تقرر أخيرا تحرير تعز؟

وعليه فقد بات كل حديث أو تصريح في هذا الجانب، ينظر إليه على أنه غير جدي، حتى جاءت العملية الإرهابية التي طالت مقر سكن الحكومة اليمنية بعدن، ومقر تابع لقوات الجيش الإماراتي، مطلع شهر تشرين أول/ أكتوبر الماضي، بعد أيام قليلة من إعلان قوات التحالف أن طائراتها تمكنت من تدمير صاروخ باليستي (سكود) بتعز، كان يعد لاستهداف مقر الحكومة بعدن، مع معلومات بوجود صواريخ أخرى مشابهة، ما عزز كثيرا من ضرورة تحرير تعز، واعتبار ذلك ذو أهمية استراتيجية وعسكرية وأمنية لتأمين مدن الجنوب المحررة، وبشكل خاص، العاصمة المؤقتة عدن. 

كما أن ترافق ذلك مع عودة تحركات المبعوث الأممي إلى اليمن بغية استئناف جولة جديدة من المفاوضات (جنيف2)، شكل عاملا إضافيا ساعد على التسريع باتخاذ مثل هذا القرار. حيث ظهرت تحليلات تنظر إلى تعز باعتبارها أحد أهم الأوراق الرابحة المتبقية أمام الميليشيات، لاسيما بعد خسارتها الأخيرة لمارب. بحيث سيتوجب عليها -لدخول المفاوضات قوية- أحد أمرين: إما السيطرة كليا على تعز، بغض النظر عن الثمن المكلف الذي ستدفعه؛ ما لم فسيتعين عليها: المحافظة على المساحات الواقعة تحت سيطرتها، على الأقل حتى نهاية المفاوضات. خصوصا إذا ما قارنا بين ما كان بيدها من أوراق في (جنيف1) - منتصف حزيران/ يونيو (قبل تحرير محافظات: عدن، لحج، الضالع، أبين، شبوة، وأخيرا مارب)، وبين ما سيكون عليه حالها في (جنيف2) القادم، الذي كان من المفترض انعقاده خلال الشهر الجاري بحسب تحركات وترتيبات وتصريحات المبعوث الأممي إلى اليمن. 

ويعتقد أن المملكة السعودية، التي يقال أنها من طالبت بتأجيل موعد هذه الجولة، أدركت أهمية أن لا يأتي ذلك إلا وقد أصبحت تعز محررة بالكامل. وبالنسبة للانقلابيين، قد يمكن الإشارة – في هذا السياق - إلى تلك التعزيزات العسكرية الكبيرة التي تدفقت إلى تعز طول الفترة الماضية، لاسيما مع شعورهم باقتراب هزيمتهم في مارب. حيث أبدت الميليشيات استماتة شديدة بغية محاولة توسيع مساحات سيطرتها في تعز. وأواخر الشهر الماضي تمكنت من السيطرة على مديرية "الوازعية"، إحدى المناطق الهامة الواقعة غرب تعز، على حدود مديرية "ذو باب" التي يتبعها الممر الدولي الحيوي "باب المندب". ومن خلالها حاولت التقدم جنوبا نحو محافظة لحج. 

ولعل ذلك، إضافة إلى المعطيات التي أشرنا إليها قبلها، هو ما سرع أكثر من اتخاذ التحالف لقرار تحرير تعز. حيث كان قد بدأ أولا بتحرير ممر "باب المندب" ومديرية "ذو باب" الساحلية. بعدها، ومع مطلع الشهر الجاري، بدأ التحالف باتخاذ إجراءات جدية في إطار الإعداد لخوض معركة تعز الفاصلة.

وضمن خطواتها استدعت القيادة العسكرية للتحالف، المتواجدة بعدن، قيادات عسكرية وميدانية تابعة للشرعية من تعز لاستكمال خطة التحرير. وبعد أيام قليلة أرسلت بعض التعزيزات العسكرية النوعية إلى المقاومة بتعز. 

ومنتصف هذا الشهر، أطلقت قيادة المجلس العسكري بتعز صافرة البدء بمعركة (#نصر_تعز)، بالتنسيق مع قيادة التحالف العربي، الذي، على ما يبدو، أنه تمكن أخيرا من تجاوز مخاوفه السابقة، عبر التعامل مباشرة مع قيادة المجلس العسكري بتعز، الذي أوكلت إليه إدارة معركة التحرير ضمن غرفة عمليات مشتركة تعمل تحت إشراف قيادة التحالف في إطار المنطقة العسكرية الرابعة بعدن، التي تتبعها محافظة تعز عسكريا. 

ومع أن معركة تحرير تعز قد بدأت فعلا، وسط إيمان راسخ لدى الكثيرين أن تعز ستتحرر في غضون أسابيع قليلة فقط، على أساس وجود جدية لدى الجميع في حدوث ذلك، إلا أن ثمة مخاوف تعتري البعض من إمكانية حدوث مفاجآت، نتيجة التباطؤ الحاصل في وصول الدعم والتعزيزات العسكرية والنوعية الموعودة للمقاومة، في ظل تعزيزات نوعية ضخمة ما زالت تصل تباعا إلى مارب، يقال أنها وجهتها الرئيسية ستكون صنعاء.