كتاب عربي 21

الواتس آب ينقذ اللبنانيين من الموت ثم يقتلهم

1300x600
كان تسجيل صوتي مدته أقل من دقيقة كافيا لتنظيم السير في لبنان الأربعاء الماضي دون أي انتشار أمني، وحتى دون إشارات مرورية تفتقر إليها معظم طرقات لبنان. 

فقد انتشر تسجيل صوتي (audio) على تطبيق "واتساب"  يتكلم فيه رجل يفترض أن له صفة أمنية، يحذر صديقا له يدعى "موريس" من أن غدا سيكون يوما أمنيا لتنظيم السير في لبنان، وسيتم نشر الحواجز وتنظيم محاضر ضبط على كل المخالفات مِن نزع حزام الأمان إلى السرعة الزائدة وغيرهما، ويوصي الرجل "موريس" بالتنبه وتنبيه كل أحبابه والأصحاب. وفي زمن الهواتف الذكية والتواصل الاجتماعي اللحظي، بات كل سكان لبنان أصحابا لموريس وقد بلغهم التسجيل التحذيري.

في صباح اليوم التالي تحزّم جميع السائقين على الأراضي اللبنانية بالأمان والتزموا معايير القيادة القانونية، ولم يسجَّل حادث سير واحد في بلد تقدر منظمة الصحة العالمية عدد قتلى حوادث السير فيه بنحو ثلاثة كل يوم، مع أن وجود الدرك لم يخرج هذا الأربعاء عن المألوف في الشوارع والطرقات.

إذن من الذي سجّل صوته ليحذر "موريس" ومِن ورائه سكان لبنان؟.. بعض التغريدات التي حفل بها خميس لبنان الإلكتروني، وجهت أصابع الاتهام الإيجابي إلى جمعيات الوقاية من حوادث السير، وبعضٌ آخر نسبها إلى مغرد فضولي يريد اختبار قوة حضوره في مواقع التواصل الاجتماعي.

بكل الأحوال نجح صديق "موريس" في تنظيم يوم أمني افتراضي للسَّير على اللبنانيين دون أي كلفة أو جهد، لكن قوة التأثير لم تكن له بل لتطبيق الواتس آب الذي لا يخلو هاتف حديث من تطبيقه. 

في ليلة سريان التسجيل الصوتي نفسها، كان سياسيون يتبارزون على استقطاب الجمهور عبر ثلاثة برامج "توك شو" سياسية في محطات تلفزيونية محلية مختلفة. لكن أحدا منهم لم يطغ، بل لم ينافس حضور "موريس" عند العامة والخاصة، مع أنه حضور صوتي قصير مجهول وغير مرئي، لكنه يتسم بسرعة الانتشار وحجمه الكبير فضلا عن المادة المثيرة التي يطرحها.

إنه التحدي الذي لم تستوعبه ممالك الإعلام العربي التقليدي بعد، التي ما تزال تنفق مئات ملايين الدولارات على الصوت والصورة، مع أن أصوات مغمورين قد تكون أقوى حتى وإن كانت بلا صورة، أو بتصوير مهتز غير احترافي بهواتف حولت نصف البشرية حول العالم إلى مُرسِلين، بعد أن كانوا جميعا متلقين من منصات القابضين على الهوائيات والترددات ثم على الأقمار الصناعية. وهذا لا يعني دعوة إلى إقفال التلفزيونات، لا سيما وأن دورها في الدراما والسينما ونقل المباريات الرياضية لم يطرأ بعد أي تعديل جوهري عليه، بل هي دعوة للاستثمار الجدي في الإعلام الجديد تحت وطأة التسارع والتناسخ المخيف لأجيال الاتصالات وأنماط المشاهدة والتلقي والمتابعة.  

بالعودة إلى "موريس" وصديقه، فبعد أن ساهم تطبيق الفيسبوك بشكل أساسي  في تغييرات خرافية في عدة دول عربية، وبعد أن فرض تطبيق تويتر نفسه منصة للتخاطب بين قادة العالم وسياسييه ولخطابهم إلى الجمهور، يأتي تطبيق الواتس آب بمنزلة مخدرات رقمية للاستعمال الشخصي. وكما أن للمخدرات وجهتَي استخدام إحداها للخير في غرف عمليات المستشفيات لتعزيز الحياة، فإن ذلك اللبناني استعمل الواتس آب لإنقاذ الناس من حوادث السير ليوم واحد، لكن الواتس آب نفسه يُعتبر في دراسة غير رسمية السبب الرئيسي الثالث في حوادث السير من خلال استخدامه في أثناء القيادة.

كذلك فإن حبل الواتس آب قصير وقصير جدا في غياب أي مرجعية له تعالج قيم المصداقية والثقة والموضوعية، التي تحاول أن تراعيها وسائل الإعلام التقليدي، والتي باتت ثقيلة جدا وموسوعية بالمقارنة مع مقتطفات الهواتف وخفتها، فهل يمكن أن تنفّذ ممالك الإعلام هبوطا اضطراريا كاملا إلى تطبيقات الإنترنت لمحاولة تأصيل الخبر فيها والمعلومة؟ بعضها بدأ لكن ليس كما ينبغي، وبعضها الآخر لن يستثمر في الإعلام الجديد إلا حين يصبح قديما؛ لأنه يفكر بعقل عجوز وهو في عز الشباب.