قضايا وآراء

باريس تبكي فتنهمر الدموع في سوريا

1300x600
لا يمكن لأحد التخفيف من الأثار السلبية التي خلّفتها هجمات باريس على فرنسا على كافة الصعد. لقد وضعت صانع القرار الفرنسي أمام تحد وطني كبير يتمثل بتأمين الدولة ومواطنيها من الخطر الأمني الذي يمثله مجموعة من المتطرفين ممن يرون موت الآخرين أسمى الغايات، وعندما يجد المواطن الفرنسي نفسه مضطرا لأن يغيّر نمط حياته ويعيش هاجس الخوف والرعب من موت يتربص به وهو يستمتع باحتساء القهوة على شرفة أحد المقاهي أو يشاهد عرضا في أحد المسارح في عاصمة أكثر ما ميزّ حياتها الاجتماعية هو الاستمتاع بذلك النمط من العيش الذي اختاروه لأنفسهم حين لا يستطيعون مقاومة خطاب تهييجي إعلامي يصوّر لهم أن هذه الحفنة من المتطرفين إنما استهدفتكم لمعارضتها لطريقة حياتكم.

وهذا التصور الخطير ينعكس سلبا على عموم المواطنين الأوروبيين المسلمين الذين لا يرون في اختلاف نمط العيش الاوروبي سببا للحرب والقتل مما يجعلهم مرة أخرى دون ذنب اقترفوه ضحية مركبة لتلك الهجمات. فهم من جهة أهداف لتطرف تنظيم الدولة، ومن جهة أخرى ضحايا للتمييز والكراهية من قبل جماعات اليمين المتطرف. ولكن الموقف الفرنسي العام في هذه المسألة كان ملفتا ومثيرأ للإعجاب، فخلاصة الخطاب الرسمي الفرنسي كانت تشدد على أن هؤلاء لا يمثلون حضارة كما قال الرئيس الفرنسي هولاند، وأن مسلمي فرنسا براءٌ من هذا الداء. إلا أن فرنسا ورغم رفع حالة التأهب الأمني لديها ستبتلع الصدمة وستتجاوزها كما تجاوزت أزمة شارلي إيبدو، وسوف تعود شوراع باريس للاكتظاظ، ووحده عامل الزمن سيكون كفيلا بطي هذه الصفحة في فرنسا. 

أما الجرح البالغ فهو هناك حيث ولد (أو صنع) هذا "الغول" المخيف في سوريا التي يقتل فيها كل يومين تقريبا نفس عدد ضحايا هجمات باريس، وحيث وجد نظامها وداعموه سندا معنويا وسياسيا في ترويج أكذوبة مواجهتهم للإرهاب وحيث تنسى أوروبا أن مفتي ذلك النظام بدر الدين حسون قد أطلق تهديدا في تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2011 توعد فيه أوروبا بإرسال الانتحاريين عندما قال "إن أول قذيفة ستسقط على سورية، فلبنان وسورية سينطلق كل واحد من أبنائها وبناتها ليكونوا استشهاديين على أرض أوروبا".

وتصريحات للأسد تضمنت تهديدا واضحا بأن استهداف النظام ستكون له ارتدادات بعيدة كما أن المؤشر الأبرز الذي يربط  مصلحة النظام وداعميه بتلك التفجيرات كونها ستوجه رسالة قوية لفرنسا بالكف عن تشددها حول الحل السياسي مشروطا بتنحي الأسد. فالموقف الفرنسي كان يتفرد أوروبيا بتشدده حول مسألة بقاء الأسد وارتباطه بالإرهاب ما عبر عنه هولاند في آب/ أغسطس من عام 2014 في لقاء  للسفراء الفرنسيين حول الخطوط العريضة لدبلوماسيته "أن بشار الأسد لا يمكن أن يكون شريكا في مكافحة الإرهاب، فهو الحليف الموضوعي للجهاديين". هذه الرؤية وللأسف يبدو أنها تأثرت كثيرأ بهجمات الجمعة الماضية. 

فموقف فرنسا الجديد أصبح كما  أعلن الرئيس الفرنسي أمام البرلمان أن "بشار الأسد لا يمكن أن يشكل الحل لكن "عدونا في سورية هو داعش". الأمر الذي يقربها من طرح من كانوا خصومها في موسكو بترك أمر الأسد جانبا والتفرغ لقاتل التنظيم المتطرف بعد أن كانت قبل وقت قريب تعتبر بويتن حليفا للأسد، وليس لها ما يظهر أن  الزخم لفرض حل السياسي في سوريا بدأ يخبو أكثر فأكثر ويزداد ضبابية مع اشتداد التدخل الروسي الذي وجد اليوم ضالته في تعزيز زعمه بمحاربة التنظيم، وهذا يعزز إشارات استفهام حول مغزى توقيت الإعلان الروسي عن ضلوع التنظيم بتفجير الطائرة الروسية فوق مصر(خلافا للموقف الرسمي المصري حتى الآن لجهة عدم اكتمال التحقيق الجنائي) ليصب ذلك كله في صياغة الخارطة الدولية الجديدة في سوريا: حرب على إرهاب تنظيم الدولة، وكل ما سواه تفاصيل هامشية. 

في هذه الخارطة يبدو القصف الروسي المرافق لعملية برية يخوضها حلفاؤه على الأرض واضح الغايات والمآلات بل واكتسب بعدا آخر باستغلال حالة الذهول الغربي من صدمة باريس في زيادة القصف الذي يستهدف الثوار "المعتدلين" لتحقيق مزيد من المكاسب العسكرية للنظام السوري توهما بانتصاره في نهاية المطاف. في المقابل لا يبدو واضحا كيف ستزيد الضربات الجوية الغربية من إضعاف التنظيم فهذه المقاربة العسكرية مستمرة منذ عام  ومازالت تتخبط نتيجة تطوير التنظيم كما يبدو لأدواته القتالية من أجل التكيف مع أعنف أشكال القصف. فهكذا يبدو أن بوصلة الروس واضحة تريد إنهاء الثورة وانتصار النظام السوري. أما الغرب فيريد إنهاء التنظيم دون معالجة جذور الإرهاب التي أدت إليه متناسياً أن أنظمة الاستبداد التي تفرّخ الارهاب والعنف بكافة أشكاله مازال الغرب يسكت عنها بل ويدعمها في أحيان كثيرة. 

وعلى العالم ألا يقلق إن كان هذا التنظيم المتطرف من قام بهذا الإرهاب فدولته المزعومة محدودة المكان وستكون محدودة الزمان ولن تعمر طويلاُ أيضا فأفكارها منبوذة لدى عموم المسلمين وخواصهم ولكن عليه أن يقلق كثيراً إذا كانت هناك قوة أخرى تقف خلف تلك الهجمات، وهي من يحرك التنظيم بعلمه أو بجهله ليجعل منه أداة لتحقيق أهداف سياسية.

الواضح أن الشعب السوري الذي خرج رافضا للذل مطالبا بالحرية على موعد مع فصول جديدة لمأساته المستمرة  التي نُسيت وأصبحت في ذيل الاهتمامات الدولية ليتصدرها عنوان واحد وهو الحرب على تنظيم الدولة وليدفع ثمنا إضافياً لأخطاء الآخرين متحملاً العبء الأكبر لإرهاب الجماعات والدول فيما لا  يلوح في الأفق إلا سراب حل سياسي يروج له الغرب بعد "خرافة" اتفاق فيينا.