مقالات مختارة

صحفي أم مجرم؟!

1300x600
كتب عبد الله الفخراني: في إحدى نهارات السجن الحارقة في بداية اعتقالي، وبينما كنتُ أسير في الممر الضيّق المخصص للتريّض عائدا إلى زنزانتي، إذا بأحد السجّانين يناديني: "تعالا يا مجرم!"، كانت كلمة ثقيلة على مسامعي وغريبة حدّ أنني توهمت للحظة أنه ينادي شخصا آخر، عدتُ إليه ووضّحت له أن سبب وجودي في هذا السجن هو عملي في الصحافة وأنني لستُ ضالعا في أي جريمة كانت، فما كان منه إلا أن نظر إلي نظرة توجسٍ وريبة وقال: "إذن أضلُّ سبيلا.."!، في الواقع كان هذا الموقف باعثا للدهشة في داخلي، فأن ينعتني أحدهم بالمجرم ثم يستقر في خلده أنني أسوأ حتى من مجرم لمجرد كوني صحفيا هو شيء عجيب للغاية، أو لنقل إنه كان عجيبا للغاية في نظري وأنا المعتقل حديثا ولم أدرك بعد مدى أزمة الوعي وصورة الصحافة في مخيلة الناس حاليا.

لقد تفنن هذا النظام طيلة عقود –وبشكل مكثف في السنتين الفائتتين- في انتهاكاته لحرية التعبير وحرية الصحافة بصفة خاصة، وعمل على شرعنة هذه الانتهاكات بشكل مواز لشيطنة مهنة الصحافة الحرة وخاصة تلك الناقلة للحدث خارج مظلة السلطة وأخبارها الرسمية، كان لهذا تداعيات عديدة أذكر منها هنا تضليل الرأي العام وتشويه نظرة المواطن البسيط لهذه المهنة ومن يمارسها، قد بات ينظر كثير من البسطاء الآن إلى الصحفي كجاسوس، ففيما نردّد نحن –الصحفيين- مرارا وتكرارا أننا نسعى لنقل الحقيقة إلى المواطن وتوعية المجتمع بما يدور حوله، تُصورنا السلطة لهذا المواطن كجواسيس تسعى لهتك أسرار الوطن وكشف نقاط ضعفه أمام أعدائه، الأمر الذي يستثير غيرته على وطنه –وللأسف- تكون النتيجة هي تشويه الوعي العام بمعنى الصحافة وبالعمل النبيل الذي يقوم به الصحفي.

على مدار 60 عاما ابتكرت السلطات أساليب متنوعة لتقييد حرية الفكر والتعبير وكسر أقلام المفكرين والكتاب والصحفيين من إغلاق المنابر وفرض القوانين المقيّدة وغيرها، وكان الصحفيون الأحرار في أخذ ورد مع هذه السلطات لضمان قدر أكبر من حرية ممارسة المهنة، لكن مؤخرا –خاصة بعد 3 يوليو- وصل قمع الصحافة بالسلطة إلى أقصى مراحله من إعدام بعض الصحفيين ميدانيا لمجرد حملهم الكاميرا كما حصل مع زملائي "مصعب الشامي" و"حبيبة عبدالعزيز" و"أحمد عاصم" واعتقال عشرات الصحفيين الآخرين واحتجازهم لأشهر والحكم على بعضهم بالمؤبد –مثلي- وأحكام مشددة أخرى، وكأن جهاز القمع هذا يوصل رسالة مفادها أن القتل والتنكيل هو مصير كل من يجرؤ على إصدار صوت غير صوته، وأن ليس ثمة ما يدعى بحرية الصحافة بل هي خيانة وجريمة يعاقب عليها، وأنه لا تعنيه جميع الاتفاقات الدولية بهذا الشأن!

إننا في الحقيقة نعيش أسوأ عصور الصحافة في مصر، ونحن –الصحفيين المعتقلين- يتم الإمعان في التنكيل بنا عقابا على قرارنا بممارسة هذه المهنة بحرية، وليس الأمر مجرد اعتقال عادي، ولا أننا فقط لا نتمتع بامتيازات خاصة على الجنائيين لكوننا سجناء رأي، بل إن الأمر يتجاوز ذلك، فمنذ لحظة القبض على أي صحفي يتم عزله تماما عن العالم الخارجي، ويعذّب بشدّة للحصول على بعض المعلومات أحيانا ولمجرد الانتقام أحيانا أخرى، ويحرم الصحفي المعتقل من حقوقه القانونية كالتحدث إلى المحامي أو طلب التحقيق في تعذيبه أو الاطلاع على محاضر التحقيق أو حتى مجرد معرفة التهم الموجهة إليه وأسبابها! الأخطر من ذلك أنه تتم الآن محاكمة الصحفيين في محاكم استثنائية ودوائر خاصة، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث ينقل الصحفيون بعد الحكم عليهم إلى أكثر السجون تشددا ورقابة وانتهاكا لحقوق الإنسان (كسجن العقرب مثلا) وهو مالا يحدث مع أخطر المجرمين والجنائيين.

بحسب أعراف السجن، يتم تقسيم المعتقلين إلى: جنائي وسياسي وصحفي، في بادئ الأمر ظننت أن تصنيفي كصحفي هنا يجعلني أفضلهم حالا، وكذلك ظنّ العديد من الصحفيين المعتقلين الذين قابلتهم في السجن حيث حرصوا على إظهار هويتهم الصحفية فور اعتقالهم، لكن الواقع كان معاكسا تماما، حتى في التفاصيل الصغيرة، فمثلا: يسمح للجنائيين باقتناء الجرائد والتلفزيونات بينما يحرم منها الصحفيون، كما أنه يسمح للجنائيين بإدخال الكثير من أصناف الأدوات الشخصية والطعام وغيره مما يمنع منعا باتا دخوله إلينا بلا سبب سوى الزيادة في التضييق علينا، تتكرر حملات التفتيش على زنازين الصحفيين بصورة بشعة وغير إنسانية ودون احترام حتى لأدنى قيم الإنسانية في الوقت الذي تكون فيه زنازين الجنائيين في راحة من هذا، وأخيرا –في عيد الفطر- تم العفو والإفراج عن 424 مجرما جنائيا وخَلَت قائمة العفو من أي صحفي أو معتقل رأي.

الآن بعد مضي عامين على سجني –والحكم علي بالسجن المؤبد- أدرك تماما أن الصحفيين المعتقلين في ظل الوضع القائم هم الأكثر تعرضا للظلم والتضييق والحرمان من الحقوق الأساسية للمعتقل ومن المحاكمة العادلة، إن هذا النظام يعاملنا كأعداء!
 
(ترجمة ميديل إيست آي)

*عبدالله الفخراني: صحفي وحقوقي وطبيب امتياز، معتقل في مصر منذ آب/ أغسطس 2013 ومحكوم عليه بالسجن المؤبد.