مقالات مختارة

العلويون.. الشيعة المنسيون

1300x600
لم يقدم بعد العلوّيون أنفسهم تقديما كافيا للتعرف عليهم من مصادرهم أو كما يعرفون أنفسهم، كما فعلت المذاهب الشيعية الأخرى؛ مثل الاثنا عشريين والإسماعيليين والدروز والزيديين. وليس ذلك بالضرورة لأنهم جماعة سرية، أو لأنهم يخفون عقائد وأفكارا مختلفة عما سواهم من الشيعة. ولكن سبب ذلك، على الأغلب، هو العزلة والتهميش الاجتماعي والاقتصادي الذي رزحوا تحته قرونا طويلة من الزمن. 

وعندما تأسست الدول الحديثة، وانتشر التعليم والثقافة، كانت النخبة العلوية علمانية غير متدينة، ولا ترى نفسها مشغولة بخدمة ونشر المذهب العلوي، وإنما كانت منخرطة في التيارات السياسية والفكرية السائدة في المشهد العربي، وذلك بخلاف الجماعات الشيعية الأخرى التي ظلت فيها القيادة الدينية جزءا من النخب، وطورت بذلك مؤسسات فكرية وتعليمية، وأصدرت كتبا وأبحاثا للتعريف الديني والعلمي بمذاهبها. وفي أحيان، وبلاد أخرى غير سورية، كانت الحوزة الشيعة تقود السياسة والمجتمع.

وفي ظل العزلة والسرية التي أحاطت بالعلويين، لحقت بهم أيضا إشاعات وأفكار كثيرة مستمدة من أمثلة وحالات برغم صحتها، إلا أنها لا تصلح دليلا أو مصدرا للحكم والفهم. ومن الطبيعي أن تنشأ في أجواء السرية والكتمان حالات كثيرة من الأوهام وسوء الفهم. وإذا أضيف إلى ذلك أن الآخر المعادي أو المهيمن، أو المتخذ موقفا متعصبا أو عنصريا، ويملك في الوقت نفسه مؤسسات علمية وفكرية، هو الذي يحكم أو ينشر، فمن المتوقع أنها سوف تكون كتابات وأحكاما محملة بالعداء والاستعلاء، وضعف المعلومات والمصادر، من دون شعور بذلك.

العلويون هم شيعة أقرب إلى الإثنا عشرية. وتسمية العلويين هي التسمية الأولى التي أطلقت على أنصار ومؤيدي علي بن أبي طالب، قبل تسميتهم بالشيعة. ولكنهم ظلوا يحملون وحدهم اسم العلويين، وصارت الأغلبية تسمى شيعة. ثم ظهروا بعد قرون من العزلة والإهمال والخوف، وكأنهم مذهب شيعي مختلف يسمى "علوية". ولا يمكن اليوم فهم تاريخ الشيعة بجماعاتهم المختلفة، من غير ملاحظة الخوف والملاحقة التي أظلت تاريخهم، وانعكست بطبيعة الحال على الأيديولوجيا. ويحدث أيضا في بيئة السرية والكتمان، تكريس لمفاهيم كثيرة، تأخذ حالة من الاستقرار المديد، كما أنها لا تتعرض للنقد والمراجعة.

وعلى سبيل المثال، فإن ظاهرة عدم الالتزام الديني لدى جماعات شيعية، تعود إلى حالة اجتماعية مستمدة أصلا من جدل ديني في المسيحية والإسلام حول الإيمان والعمل. إذ ثمة رأي ديني مسيحي وإسلامي بأن الإيمان يكفي للقبول عند الخالق، أما العمل فهو إضافة إلى الإيمان. ويكفي المؤمن بعد الإيمان أن يفعل الخير ويتجنب الشر، ويتحرى العدل ويتجنب الظلم. وقد سادت حالة العزوف عن أداء الفرائض الدينية في المجتمعات الإسلامية والمسيحية أيضا، ولكنها تحولت في البيئة المغلقة إلى فكرة راسخة لم تراجع، وأضيفت إليها خرافات وقصص، مثل الاعتقاد أن الأولياء والصالحين يؤدون عن قومهم وأتباعهم الفرائض الدينية. ولكن ذلك ليس بالطبع مذهبا دينيا يمكن نسبته إلى العلويين أو الدروز أو الإسماعيليين.

لا ينفي العلويون عن أنفسهم "الباطنية"، ولكنها لا تعني لديهم ما يتهمهم به غيرهم. فهي تعني أن للكلمات والعبارات معنى باطن، بالإضافة إلى معناها الظاهر "التأويل". وليس المقصود بالباطن الإخفاء أو التمويه، وإن كانت التقية متبعة عند الشيعة، وهي أيضا مقبولة لدى السنة. ولكن التاريخ السري الطويل للشيعة جعل التقية تأخذ مساحة كبيرة، حتى بدت وكأنها أصل غالب، بخلاف السُنّة الذين جعلتهم الغلبة يرون التقية والسرية أمرا مذموما.

ثمة بالطبع أدلة كثيرة في القرآن على فكرة الخفاء والرموز، مثل الآية: "هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَات مُّحْكَمَات هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات..." (آل عمران، الآية 7)؛ "... وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا" (آل عمران، الآية 7)؛ كما الأحرف أو الكلمات التي تلفظ حروفا منفصلة في فواتح بعض السور، مثل ألم، حم، كهيعص، حم عسق... وهناك أيضا آيات كثيرة جدا تحتمل المجاز وتعدد التفسير، مثل "فإنك بأعيننا"، "يد الله فوق أيديهم"، "الرحمن على العرش استوى"، "واصطنعتك لنفسي".

ولدى العلويين مصدر آخر للعلم والحكمة، إضافة إلى القرآن والسُنّة (في روايات وأسانيد بعضها ينفردون به، وبعضها الآخر يشترك مع روايات وأسانيد السُنّة). والتأويل أو العلم الباطن الذي يعتقدون أن آل البيت يختصون به، هو "الجفر"؛ وهو من العلوم التي يصفونها بأنها "خفية"، ويتضمن ما يعتقدون أنه من وضع وتأليف علي بن أبي طالب، ثم جعفر الصادق.

ويعتقد العلويون أن لكل إمام من الأئمة الاثنا عشر "بابا"، وكان علي باب الرسول، يستشهدون في ذلك بحديث نبوي "أنا مدينة العلم وعلي بابها". وسلمان الفارسي كان باب علي بن أبي طالب. ومن رؤسائهم الدينيين العظام بعد الائمة الاثنا عشر، الحسين بن حمدان الخصيبي، والذي عاش فترة طويلة في حلب يدير الشؤون الدينية في دولة الحمدانيين (وهم من الشيعة أو العلويين كما كانوا كلهم يتسمون، وإن ظهرت مذاهب انشقت عن العلويين وتسمت أيضا بأسماء أئمتها، مثل الإسماعيليين والزيديين). وقد ألف الخصيبي كتبا عدة، يعرف منها "الهداية الكبرى". 

وفي تفرق الشيعة الاثنا عشريين بعد الإمام الثاني عشر، حسب القبائل والعلماء والدعاة والأحداث السياسية الكبرى، تشكلت هوية خاصة بمن يعرفون اليوم بالعلويين. والقبائل العربية الشيعية التي ينتسب العلويون في سورية إليها هي قبائل عربية اعتنقت المذهب الشيعي في وقت مبكر، واستوطنت الساحل السوري، مثل المهالبة الذين ينتسبون إلى المهلب بن صفرة، من قبيلة كندة، وبني هلال وتغلب والتنوخيين، والغساسنة، وقد تحالفوا مع العباسيين السُنّة في مواجهة الفاطميين (وهم شيعة إسماعيليون)، وكانت لهم على مدى التاريخ جولات وهزائم. فقد أنشأوا دولا قوية ومهيمنة مثل الحمدانيين والغسانيين، وكان البويهيون حلفاء أقوياء لهم. وفي مرحلة صعود السلاجقة والترك، تعرضوا للأذى والاضطهاد، ووقع بينهم وبين الإسماعيليين عداء وقتال، وتحالفوا مع صلاح الدين والأيوبيين. ولكنهم تعرضوا لاضطهاد شديد في زمن الترك العثمانيين، فاعتصموا بالجبال المنيعة لتحميهم من جيوش الدولة العثمانية وعيونها. ولذلك فقد تحالفوا مع إبراهيم باشا ضد العثمانيين عندما غزا بلاد الشام العام 1830، وزاد ذلك في اضطهادهم وعداوتهم مع العثمانيين بعد انسحاب ابراهيم بن محمد علي العام 1840.

كانت فترة الحكم العثماني بالنسبة للعلويين، قرونا من العزلة والفقر والتمييز التركي والعربي السُنّي. ولا شك في أنها أثرت على تكوينهم ومواقفهم وأفكارهم. وفي الواقع، فقد كان صعودهم إلى واجهة التأثير ثم الحكم من خلال حزب البعث، ووصول حافظ الأسد العلوي إلى رئاسة سورية العام 1970، مشحونا بذاكرة طويلة وعميقة من الانتقام والخوف من المستقبل. وهذا ما يجعل حل المسألة العلوية في سورية صعبا ومعقدا.

يشكل العلويون 10 بالمئة من سكان سورية، ولهم وجود كبير في تركيا. ويقال إن إيران أجرت تشكيلا عميقا في الفكر والفقه العلويين، واستعادت العلويين إلى الحوزة الاثنا عشرية. لكن من المؤكد أن العلويين عرب، ينتسبون إلى القبائل العربية العريقة. وقد ساعدت عزلتهم على شعورهم العربي وتمسكهم بتاريخهم ونسبهم. وربما يكون ذلك من أسباب حماسهم ومشاركتهم الواسعة في حزب البعث والحزب السوري القومي والحركات القومية العربية.



(نقلا عن صحيفة الغد الأردنية)