سياسة عربية

أبو غسان.. عجوز سوري نزح وزوجته إلى تركيا هربا من الموت

بعد أن غادر كل أولاده سوريا - أ ف ب
رغم انحناء ظهره وتجاوزه لـ 70 سنة لم يتردد العجوز السوري أبو غسان، رفقة زوجته، في الإقدام على رحلة شديدة الصعوبة، قادته من سوريا نحو تركيا للقاء ما تبقى لهما من أبناء.

أبو غسان يقطن في مدينة حلب في منطقة قريبة من أحد الفروع الأمنية الشديدة، وهي لمخابرات الجوية، ما جعل المنطقة هدفا هاما لقوات الجيش الحر وكتائب المعارضة، فتحولت لساحة اشتباكات ومعارك، تشتد أحيانا وتهدأ أخرى منذ أربعة سنوات.

العجوز موظف متقاعد وأب لخمسة أبناء من سكان حي شارع النيل السوق المحلية، اضطر للنزوح إلى تركيا بشكل غير شرعي في رحلة مميتة نجا منها هو وزوجته بأعجوبة.

قال أبو غسان لصحيفة "عربي21": "منذ بداية سيطرة الجيش الحر على أحياء صلاح الدين ثم سيف الدولة، دخلت حلب مرحلة العسكرة للثورة، وهذا يعنى تراجع الحراك السلمي ليحل مكانه القصف والاشتباكات، التي تركزت بصورة أساسية بالقرب من المراكز الأمنية والثكنات العسكرية التي تتواجد طبعا داخل الأحياء التي يقطنها مدنيون".

وأضاف "انخرطت في الثورة على نظام الأسد، وأيدت الحراك السلمي للثورة بالرغم من القمع الذي واجه به النظام المدنيين العزل، والذين أجبرهم النظام بقمعه الوحشي على حمل السلاح دفاعا عن أنفسهم".

واستدرك المتحدث: "عندما بدأت تتشكل الكتائب والتي بدأت تسيطر على الأحياء التي يقطنها الفقراء في المدينة، وبدأ النظام بقصفها بشكل مجنون بالبراميل وصواريخ سكود والطائرات، بدأت أفكر بجدوى هذا التحرير الذي غدا تدميرا، وحاول إفراغ الأحياء بأكملها من سكانها وتسويتها بالتراب".

يواصل أبو غسان حديثه: "لقد حكم على أغلب سكان حلب بالموت فرادى أو جماعات، فمن لم يمت مباشرة بصواريخ سكود أو بالبراميل التي تقتل العشرات، مات برصاص القناصة أو أثناء الاشتباكات التي تحدث في مناطق التماس والتي حصدت أرواح المئات".
 
يتابع أبو غسان شهادته قائلا: "كانت منطقتنا آخر شارع النيل وجمعية الزهراء من أكثر المناطق سخونة بالاشتباكات، وأكثرها حواجزا، وتمركز في حينا قناص كان يتسلى بين الفينة والأخرى بقنص المارة من شبان وأطفال وأحيانا نساء، وكثيرا ما كنت أسمع صوت رصاصاته وهي تمر بجوار أذني".

واستطرد أبو غسان قائلا: "كثير من جيراننا ذهبوا ضحايا هذا القناص الذي لا يرحم، يتناقل الجيران عنه بعض المعلومات ويقولون إنه على الأرجح قناص إيراني، من ناحية أخرى كانت قوات الجيش الحر تستهدف مقر المخابرات الجوية المجاور بعد إشاعات عن إفراغه من السجناء والمعتقلين، ولكنه برغم ذلك كان يشكل قيمة معنوية كبيرة للثوار وللجيش الحر، بسبب ما مورس فيه من تعذيب مروع على المعتقلين وخصوصا في أقبيته العفنة".

وأضاف: "كنا نشم روائح احتراق اللحم البشري الصادرة من الفرع سيء السمعة، من شرفاتنا كل ليلة بلا انقطاع، وخصوصا في شهر رمضان، وغالبا ما كنا في اليوم التالي نجد جثثا مرمية على قارعة الطريق في الصباح.. أصبح الحي مرعبا جدا".

وأوضح أبو غسان أن رمي الجثث بشكل شبه يومي تزايدت معه أعداد الكلاب الضالة بشكل كبير، و"يبدو أنها كانت تقتات على الجثث، وحتى الطيور الكبيرة الجارحة أيضا أصبحنا نشاهدها أكثر فأكثر في منطقتنا، ووسط أصوات الاشتباكات وطلقات القناصة المتفرقة،  وانقطاع الماء والكهرباء المزمنين عن مناطق حلب، كان علينا أن نواصل الحياة، فقبل اشتداد وتيرة الاشتباكات أصبحت منطقتنا مأوى للنازحين من مناطق حلب المحررة، لكن ومنذ ما يقارب العام دخل الحي مرحلة جديدة جعلته يفرغ من سكانه كليا ويتحول إلى حي للأشباح".

وعن سبب فراغ الحي من أغلب السكان يقول النازح لـ "عربي 21": "كانت قذائف الهاون تستهدف مقر المخابرات الجوية، وبسبب عدم دقتها كانت تسقط على المدنيين هنا وهناك.. أمام منزلي قتلت طفلة صغيرة تمزقت إلى أشلاء، وبعدها أصيب العديد من سكان الحي بشظايا القذائف لمرات متعددة، ولكن وبعد استخدام قوات تابعة للجيش الحر لقنينات الغاز كقذائف وبشكل متكرر أصيب البناء الذي أقطن فيه عدة مرات، وعلى سطح المنزل المجاور قامت قوات النظام بنصب راجمة صواريخ، وهنا أصبح الخروج من المنزل حتميا، زوجتي كانت تلح عليّ للخروج واللحاق بأبنائي الذين توزعوا بين تركيا وهولندا والسويد".

يتابع أبو غسان حديثه بمرارة ويتساءل: "مين اللي جبرك على المر.. خرجنا بعد اشتداد المعارك بين الطرفين، لا نحمل إلا ما نرتدي من ثياب، نهرول ونجر أجسادنا الهرمة بصعوبة لنتوقى القذائف والشظايا، والوجهة الحدود التركية المغلقة في وجهنا، ولا طريق للقاء الأولاد والوصول إلى بر الأمان إلا من خلالها".

بعد ساعات طويلة من السفر، يقول أبو غسان، "وصلنا إلى عفرين، كان هناك مهربون يتقاضون مبالغ مالية كبيرة ليهربوا الناس عبر الجبال والوديان في طرق شديدة الوعورة، وقد تقاضوا منا ما يقارب 40 ألف ليرة، وبالرغم من ذلك اضطررت أنا وزوجتي لتسلق خندق بعمق خمسة أمتار، وتعرضنا للتعثر والسقوط عدة مرات ولكن الله سلم ولم نصب إلا  ببعض الرضوض"

وعن تعامل قوات الأمن التركية يقول أبو غسان: "كان حرس الحدود يتعاملون معنا بقسوة، كان يقومون بإبعادنا والصراخ في وجوهنا، بل قاموا بصفع بعض الشباب لدفعهم للعودة، لكن أحد حرس الحدود تعاطف معي ومع أم غسان كوننا مسنين فأومأ لنا أن نتريث ريثما يعود هؤلاء ويسمح لنا بالمرور، وفعلا كما قال سمح لنا بالمرور بعد عودة الجميع، وقام بتقبيل يدي ويد أم غسان".

يختم أبو غسان حديثه بالقول: "نتوق اليوم فقط إلى أن نمضي الأيام الباقية من عمرنا بأمان مع أبنائنا المشتتين في بقاع الأرض دون قصف وبوجود الماء والكهرباء والخدمات الطبيعية كباقي البشر، الحياة بأمن وعدالة وسلام".