قضايا وآراء

العـــلمانية والدين وتناقض المرجعيات

1300x600
فكرة العالم الحر القائمة على عدة ركائز أهمها الحرية الفردية والحقوق، تنادت بها الدول في عصر الحداثة، وكانت نوع من عصارة الفكر الحديث المبني بجله على القيم العلمانية المتحررة من علاقة الدين بالدولة بل ومعادية له. بالمقابل، فأنَّ دولة الحداثة ازدانت بالنمو العمراني والعلمي مما جعل هذه الدول الأكثر تقدما وتطورا، ولكن تبقى المنظومة الفكرية موضع الخلاف.

في سياق مناقشة قضية علاقة الدين، بالقومية، وبالسياسة والمجتمع في الحيز العام، يجب عدم التغاضِ عن اختلاف المرجعيات واختلاف الأسس والقواعد الفكرية، والقوالب الأيدلوجية التي تحيط بكل مصطلح، المتجانسة أحيانا والمتباعدة أحيانا أخرى، غير متغاضين عن نقاط التشابك، فيما بينهم من غير إخلال في تحليل نقاط التشابك هذه.

القواعد الفكرية الحاكمة للدين مستمدة -في حالتنا الإسلامية- من الشرع، وهنا قد يسأل سائل، بحسن نية أو بسوئها، وع بذلك أم لا، وهو أي شرع تتحدث عنه؟ فلهذا سؤال له وجاهته.
 هل الشرع الذي نتحدث عنه هو ذلك الذي نستمده من الإرث الفقهي القديم، القران، أم هو ما قاله  الفقهاء وأي الفقهاء همُ القدامى أم الجدد، المعاصرون، أم المجامع الفقهية.. وتستمر التساؤلات ....

 وتكمن الخطورة في هذا التساؤلات، وما هو على شاكلتها من الأسئلة في أنها ليست بريئة بقدر ما أنها تحاول النيل أو قل تمييع الدين في محاولة للنيل منه أو قل تمييع الدين في محاولة لإظهار الدين على أنه مزيج من الخلافات، وأن "كل ما يخطر على بالك ففي الدين رأي قائم بذلك!".

وأما صاحب حسن النية فهو الإنسان البسيط "المحتار في كثرة الفتاوى، وكثرة المفتين واختلاف ما يشاهده في التلفاز مع ما يصاحب ذلك من اختلاف ممزوج بنوع من التناقض"، هذان السائلان محقان في السؤال مختلفان في المآلات والمقاصد. وهنا تكون الإجابة للأول والثاني واحدة، وهي أن النصوص الشرعية واضحة في كثير من المسائل، والقضايا الحديثة يمكن أخذ رأي المجامع الفقهية أو رأي جمهور العلماء في ذلك.

 تكمن مشكلة بعض جمهور العلمانيين وغير المتدينين في الهروب من هذه المرجعية للعلماء الشاذين في فتواهم بما يناسب مقاساتهم وفكرهم هم، ويكون بناء الدين وفق رؤيتهم، أما القسم الآخر فيعاني من الفوضى الفقهية القائمة نتيجة للظروف الجيوسياسية المحيطة بالمجتمع وأسبابها كثيرة. وللدلالة على ذلك نرى أن العلماني وغير الدارس للعلم الشرعي يفتي في الحلال والحرام فهل يعقل أن تلجأ لمهندس معماري ليفتيك بألم يصيبك في الأمعاء الغليظة، والدين كذلك.. فلا يعقل أن كل من هب ودب يفتيك! وهنا لا نتحدث عن الثيوقراطية الدينية، إنما عن مساحة الحلال والحرام الواضحة والاجتهاد في القضايا الأخرى وارد.

القواعد الفكرية الحاكمة للعلمانية هي الحريات الفردية، وتقديسها والتعددية السياسية والعدالة الاجتماعية، ومع أن الإسلام أولى هذه الحريات أهميتها لجانب الحريات الجماعية وضمان سلامة المجتمع وفق مقاصد الشرع العامة إلّا أن الشارع وضع لها ضوابطا وحدود، ويكمن التساؤل هنا هل لهذه الحريات الفردية وفق الفكر العلماني قواعد ضابطة؟! ومن يحددها؟!. يستطيع مريدو التيار العلماني الإجابة أن هذه الحريات مقيدة بحقوق الإنسان، ويعود التساؤل مجددا ما المعرِّف والضابط لحقوق الإنسان.

لتجسيد هذه النقطة.. نأخذ المثال الذي دار حوله نقاش عام في الفترة الأخيرة، وهو قضية الشواذ أو المثليين جنسيا.. حتى زمن قريب كان الغرب بجله يرى بهذا الفعل أنه مثلبة وفعل شنيع، وأنه يضر بقيمة الحياة الزوجية ومعاني الحياة المشتركة وبناء الأسرة، ومن ثم أصبح الموضوع قضية حرية شخصية يجب تبنيها.. فهل هذا مبني على تطور في المنظومة الفكرية البشرية؟... والسؤال إلى أي حد هذه المنظومة ستغالي في تفكيرها المتحرر؟ عندئذ من حقنا أن نسألهم في ما المانع من زواج الرجل بابنته إذا كان الطرفان موافقان على ذلك؟.. وهو سؤال جدي وصادم في مثل هذه الحيثية وإن رأه البعض غير معقول؟.

وفي السؤال جواب ضمني أن ليس هناك ضابط لهذا ولا مانع..، كما يكمن التساؤل ما المانع من تجول الرجل أو المرأة عاريين في وسط الشارع أو ليس ذلك من الحرية الشخصية؟. والشاهد فيما أقول أن التيار العلماني التحرري يقع في هذا الأشكال، ولم يجب عليه بشكل واضح حول الضابط وحدود الحرية بينما الإسلامي قرر الضابط متمثلا بالدين مع إدراكنا التام لمتطلب ضبط حالة " فوضى الفتوى" التي تمر بها الأمة.

المشكلة المستعصية والأصعب تكمن عند التيار القومي العروبي الذي يقول بعلاقة الإسلام والعروبة، وأن الإسلام لا يمكن سلخه عن العروبة، وإن كان لهذا الادعاء منطلقان؛ الأول براغماتي يرى حال العالم العربي المتمسك بالدين أو قل المحافظ، وبالتالي من الحكمة عدم التصادم معه، أما المنطلق الثاني فهو فكر مؤمن بهذا التزاوج بين التياران إيمانا حقيقيا. ويكمن التساؤل هنا ما حدود هذا العلاقة وما هو الضابط أو الحاكم فيما بينها، وخصوصا أن منطلقات التيار العروبي كتيار قومي مستمدة بجلها من القيم والأفكار العلمانية، مقابل التيار الإسلامي الذي يستمد منطلقاته من الدين الإسلامي بقيمه وأفكاره.

 فإذا كان هناك نوع من التقارب السياسي الذي  تحتمه الظروف والمرحلة فيبقى الخلاف الفكري، ويجب على المنادين بهذه العلاقة الإجابة عن السؤال كيف هو التعامل مع الخلاف والاختلاف في القضايا الفكرية والقضايا الاجتماعية بين الفئتين. 

وإذا كان الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه حول العلمانية فرّق بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، حيث أن "العلمانية الجزئية" تعني فصل الدين عن الدولة مع التزام الصمت بخصوص القضايا الأخرى، فأن "العلمانية الشاملة" بما تعنيه من فصل القيم الأخلاقية والدينية عن الحياة في جانبيها العام والخاص، ونزع القداسة عن الإنسان والطبيعة تُحول العالم بأسره إلى مادة استعمالية يوظفها الأقوى لحسابه، ويبدو أن التيار العروبي القومي قد مال نحو العلمانية الشاملة غير المعلنة، لعدم استطاعته قصرا أو اختيارا من تبني العلمانية الجزئية ناهيك عن حاجته لصد التقدم الشعبي للتيار الإسلامي الوسطي، وبالتالي سيحاول الهجوم عليه من باب الدين والقيم، وهو ما يجعله يتورط قيميا وفكريا وأخلاقيا في مثل هذه المنزلقات التي تدفع به نحو نفي الآخر " الإسلامي" تحت مظلة التعددية وحرية الفكر  واحترام "أفعال العلمانيين بحكم أنها من أبواب الحرية في الأفعال والأقوال"، وهو أبعد ما يكون عن هذه الحقيقة بعدئذ رأيناهم في عدد من دول الجوار كيف يتصرفون، وماذا يقولون ويفعلون خاصة وأنهم في المنظور الفكري العلماني الشمولي يخرجون عن قوس واحدة.

النقد والنقد المضاد مهم جدا لامة تتطلع للخروج من تبعات الموروث الاستعماري أذ العلمانية بكل انواعها  احد افرازاته وتجلياته وعليه وفي النهاية على التيار القومي العربي توضيح خطابه ومرجعياته القيمية وضوابطها ومصارحة الذات في قضية تقبله للدين ومكانة الدين ودوره في المجتمع– ليس وفق اهوائه بل وفق ما هو الدين بالفعل- وعلى الجميع الاسلامي والقومي محاولة اقناع الاخر الرأي بالرأي والحجة بالحجة بوضوح وشفافية ومن دون اقصاء للآخر مع احترام الضوابط والثوابت واحترام رأي الغالبية، فماذا عسانا نفعل نحن أبناء وطن واحد...ويجب أن نعيش مع بعض.