قضايا وآراء

"البدلة الحمراء" و"العين الحمراء"

1300x600
يوم الأربعاء الماضي أطلق القيادي في جماعة الإخوان الدكتورعمرو دراج، وهو وزير سابق في عهد الدكتور مرسي تحذيرا  خلال مؤتمر صحفي من إقدام سلطات الانقلاب على إعدام الرئيس مرسي؛ مؤكدا أن تنفيذ الحكم "سيكون له تبعات كبيرة جدا"، ورغم أن العبارة تبدو دبلوماسية جدا، إلا أنها في الوقت نفسه تبدو كضوء أحمر" أو عين حمراء" من قيادة إخوانية، لم يعهد عنها أن تتحدث هكذا لغة من قبل، فالرجل صاحب مهام دبلوماسية سواء إبان عهد الرئيس مرسي كوزير للتعاون الدولي، أو خلال فترة اعتصام رابعة كمفاوض مع البعثات الدولية التي حاولت التوسط، أو حتى في الوضع الحالي كعضو أصيل في غالبية الوفود التي تجوب العالم حشدا للتأييد الدولي ضد الانقلاب، ولكن لأن الحدث المتوقع جلل، ويحتاج إلى إظهار العين الحمراء فقد فعلها الرجل.

من الواضح أن السيسي متعطش لدماء مرسي الذي رقاه من رتبة لواء إلى فريق أول مرة واحدة، وعينه وزيرا للدفاع، لكن لأنه لايحفظ المعروف فقد انقلب على رئيسه، وها هو يستعد لقتله، وصدق من قال"سمن كلبك يأكلك"، لكن السيسي يخطئ في تقديراته، فهو لم يقدر خطوته جيدا لحظة انقلابه على رئيسه، وظن حينها أنه قادر بكتائبه العسكرية والشرطية ومخابراته العامة والحربية على حسم الأمر، خلال 48 ساعة أو أسبوع كحد أقصى كعادة الانقلابات في العالم، غير أنه فوجئ بصمود أسطوري للمقاومة على مدى عامين، وها هو السيسي يخطئ التقدير مجددا بتفكيره في إعدام مرسي الذي انتخبه 13 مليون مصري في أنزه انتخابات مرت على مصر في تاريخها كله، وبالتالي لم يعد ملكا لجماعة او لحزب بعينه، بل لهذه الجماهير العريضة التي انتخبته، والتي تتنوع في ردود فعلها كما هي طبيعة البشر دوما، وإذا كانت قيادة الحراك الثوري حتى الآن متمسكة بالخيار السلمي وقادرة على لجم الراغبين في عسكرة الثورة، إلا أنها ستفتقد تلك القدرة فور تنفيذ الإعدام بحق مرسي، بل ليس مستبعدا أن تكون هي ذاتها هدفا للانتقام من البعض، بدعوى أنها منعت الثوار من استخدام السلاح أو توفيره لهم لمواجهة كتائب السيسي وبلاطجته، كما أن الأمر لن يتوقف عند حدود الشعب المصري، فأنصار الحرية والديمقراطية في العالم العربي والإسلامي، بل في العالم كله على اتساعه لن يقفوا مكتوفي الأيدي تجاه هذه الحماقة التي تنتشر كالعدوى من مكان إلى مكان.

يدرك الغاضبون الساعون للانتقام المسلح أنهم الأقل عددا وعدة من كتائب السيسي، ويدركون أن معركتهم غير متكافئة بكل المقاييس، لكنهم يدركون أيضا أنهم قادرون على إيلام خصومهم، بينما لن يكون لديهم هم ما يخسرونه بعد أن يكونوا قد فقدوا الأمل في كل شيء، ولم يبق لهم سوى التعلق بأمل الشهادة نصرة لحق يقتنعون به.

يخطئ السيسي مرة أخرى باعتقاده أن التخلص من مرسي الذي ألبسه "البدلة الحمراء" سيخلي له الساحة وسيكمل له شرعيته الزائفة، فالشرعية بالأساس تعني الرضا والقبول الطوعي، والسيسي يدرك أنه لايحظى بهذا أو ذاك، ولذا فهو يتدثر ويتترس بدباباته ومدرعاته لفرض سطوته، وهو يدرك أن سلطته هي سلطة المتغلب التي تفتقد لعنصر الرضا والاختيار الحر في عقد الإمامة كما حدده الشرع، ولذا يأمل أن غياب مرسي من المشهد سيمنحه تلك الشرعية قبولا بالأمر الواقع، وهذا غير ممكن لأن ملايين المصريين وخاصة الشباب الذين أهدرت إرادتهم وألقيت أصواتهم في سلة القمامة، لن يقبلوا بحكم السيسي، كما أن الآلاف من عائلات الشهداء والمصابين والمشردين والمعتقلين، لايمكنها القبول بالسيسي مهما كلفها الأمر، ناهيك أن غياب مرسي لن يعني غياب الثورة  ومبادئها، أو غياب قيادتها الميدانية والسياسية.

حين أصر الرئيس الأسبق البكباشي جمال عبد الناصر على إعدام سيد قطب 29 أغسطس 1966 رافضا كل الشفاعات الدولية، كان يظن أنه بقتله لأستاذه الذي استند لكتاباته في برامجه للعدالة الاجتماعية سيتخلص من كابوس أقض مضجعه، لكن هذا الكابوس ظل ينمو ويكبر حتى مات عبد الناصر ليتحول هذا الإعدام إلى مصدر إلهام لأجيال وفئات واسعة، ليس من الشعب المصري فقط بل في كل الشعوب الإسلامية، وصدق الشهيد سيد قطب حين قال " إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا من أجلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة"، فها هي كتب سيد قطب بدءا من الظلال وانتهاء بمعالم في الطريق هي الأكثر مبيعا والأكثر انتشارا في المكتبات العربية رغم ملاحقات أذناب ناصر حتى الآن.

وحين أعدمت السلطات البوليفية الموالية لواشنطن الثائر تشي جيفارا في أكتوبر 1967 كانت تظن أنها تخلصت منه ومن شبحه للأبد، لكن ما حدث هو العكس إذ أصبح جيفارا نبراسا وملهما للثوار من أجل العدالة والاستقلال في العالم، وأصبحت صوره تغطي الكثير من الأماكن، ورثاه الشعراء بقصائد خالدة، وأنتجت عنه الأفلام  الدرامية والوثائقية والمذكرات والأغاني، بل وضمته مجلة التايم ضمن الشخصيات المائة الأكثر تأثيرا في القرن العشرين، واعتبرت صورته المأخوذة من طرف ألبرتو كوردا والمسماة غيريليرو هيروويكو (أصل الاسم بالإسبانية ويعني باللغة العربية بطل حرب العصابات) "الصورة الأكثر شهرة في العالم." في حين لايتذكر أحد اسم الرئيس البوليفي الذي قتله (رينيه باريينتوس)،

قببل لحظات من إعدمه سأله أحدهم عما إذا كان يفكر في حياته والخلود. فأجاب جيفارا: "لا أنا أفكر في خلود الثورة." ثم قال للجلاد " أنا أعلم أنك جئت لقتلي أطلق النار يا جبان، إنك لن تقتل سوى رجل".

في العام ذاته الذي أعدم فيه جيفارا، وتحديدا في 5 مارس 1967 مات رئيس الوزراء الإيراني الأسبق محمد مصدق بطل تأميم النفط في إقامته الجبرية التي فرضت عليه، بعد حكم هزلي بحبسه من محاكم الشاه، وقد رد مصدق على هذه المحاكمة الهزلية بقوله "إن حكم هذه المحكمة قد زاد أمجاد بلدي التاريخية. وأنا ممتن للغاية لإدانتها لي. الليلة ستعرف الأمة الإيرانية معنى الدستورية"
حين أجرت سلطات الاحتلال الإيطالية لليبيا محاكمة هزلية لشيخ المجاهدين وأسد الصحراء عمر المختار، وحكمت بإعدامه في 15 سبتمبر 1931، أرادت أن يكون هذا الإعدام عبرة لمن يعتبر، فأحضرت في اليوم التالي للحكم جميع أقسام الجيش والميليشيا والطيران، وجمعت حوالي 20 ألفا من الأهالي وجميع المعتقلين، خصيصا من أماكن مختلفة لمشاهدة تنفيذ الحكم في قائدهم بهدف تحطيمهم معنويا، فماذا كانت النتيجة؟ أصبح المختار رمزا للثوار ليس في ليبيا فقط، بل في عموم العالم، وأصبحت سيرته تدرس للأجيال.

هكذا تتنوع نماذج المناضلين وقادة الثورات الذين تخلص منهم أعداء الحرية، لكنهم بقوا خالدين أسماء وأفكارا وتجاربا ملهمة للأجيال، أما قتلتهم فقد طمست معالمهم في مزبلة التاريخ.