مقالات مختارة

من يزرع الطائفية يحصد الخراب

1300x600
منذ عام 2003 والعراق يتصدر الدول التي نخرتها ملفات الفساد والافساد والرشوة والمحسوبية والمنسوبية والفئوية والطائفية والعرقية والمناطقية، باختصار فوضى عارمة ليس لها مثيل في العالم أجمع. لذلك فليس بغريب أن يكون هذا البلد السباق في سرعة الانحدار إلى الهاوية، التي قد تصل إلى الانتحار. إن المشكلة العمرانية والمادية يمكن أن تجد لها حلا لو ظل النسيج الاجتماعي العراقي بمعزل عن تلك الأحداث، فقد تهدمت ألمانيا واليابان وأجزاء كبيرة من الاتحاد السوفياتي إبان الحرب العالمية الثانية، لكن إرادة حكوماتها وشعوبها مكنتها من إعادة البناء بظرف سنوات قصار.

الجريمة الكبرى للطغمة الحاكمة في بغداد تكمن في التمزق الطائفي، فقد ترسخت أقدامه بمرور الأيام والأشهر والسنين في جميع مجالات الحياة، ليصبح دينا يتعبد به. وأضحت الهوية الطائفية الوسيلة الأهم والأعظم لتسيير شؤون البلاد والعباد. إن العقلاء والمخلصين لهذا الوطن سبق أن أدركوا بأن مؤامرة تقسيم العراق بدأت مع عراق المكونات شيعة سنة أكرادا. علما بان مثل هذا التقسيم لا يستند حتى على تقسيم طائفي منطقي متوازن، أو تقسيم عرقي منطقي متوازن، إنما استند إلى مزيج من تقسيم طائفي عرقي منتقى ومبرمج بصورة غير أخلاقية، يهدف لظلم فصيل محدد اضطررنا تسميته وفق تصنيفهم وهم السنة العرب. إن أذناب الاحتلال لم يرق لهم التقسيم الطائفي المجرد شيعة سنة؛ لأن عدد السنة العراقيين من جميع القوميات لن يسمح لهم الاستئثار بالسلطة، مثلما لم يسمح لهم التقسيم القومي عربا أكرادا ذلك أيضا. إذن المصالح الآنية الأنانية المشتركة بين المحتل الأمريكي الذي يهدف مشروعه إلى تدمير بلدان العرب والمسلمين، وبين القادة الأكراد، الذين يخططون لتأسيس دولتهم القومية المنشودة، وبين قادة شيعة المنافي الذين يبحثون عن الجاه والثروة والسلطان. 

علمتنا التجارب الإنسانية بأن بناء الأوطان ونجاح المشاريع الاجتماعية الكبرى لا يتم إلا من خلال التسامح والإخلاص والمهنية والاستفادة من الكفاءات العلمية. ففي عشية الحرب العالمية الثانية في 25 آذار/مارس 1957 عقدت في روما ما أطلق عليه آنذاك الجماعة الأوروبية للفحم والفولاذ، التي كانت بداية لتأسيس السوق الأوروبية المشتركة. جاء فريق فني أوروبي إلى الرئيس الفرنسي شارل ديغول سائلا إياه: هل يمكن أن تدخل ألمانيا التي أعلنت الحرب في هذه المؤسسة المقترحة؟ هنا وفي مثل هذه الظروف تظهر أهمية القائد المتسامح الذي لا يرى إلا مصالح شعبه وشعوب قارته؛ فقال لهم: لا يمكن بناء أوروبا دون ألمانيا رغم أن الدماء الغزيرة بين البلدين لم تزل رطبة. لقد رأينا فيما بعد أيضا التسامح والمهنية لدى الغرب، الذي لا يولي أي اهتمام للطائفية والعرقية مما سمح لساركوزي الهنغاري الأصل أن يصبح رئيسا لفرنسا، وليونيل جوسبان من الأقلية البروتستانتية أن ينتخب رئيسا لوزراء فرنسا هو الآخر. كذلك الأمر بالنسبة إلى جون كندي الذي أصبح من أكثر رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية شعبية، رغم أنه من الأقلية الكاثوليكية أو أن يتبوأ أوباما ذو الأصول الإفريقية المنصب نفسه. 

دفع الشعب العراقي ثمنا باهظا من الفقر والانقسام والتطرف والظلم الطائفي والقتل والاختطافات والدمار المادي والحروب العبثية والفساد؛ نتيجة فرض تجربة إعادة العراق إلى ما قبل الحداثة. لقد سبق الإعلام الطائفي كذب ودجل ونفاق غوبلس وزير إعلام هتلر. ظل ذلك الإعلام يستخدم مصطلحات جميلة تنتمي إلى عصرنا كالديمقراطية والحرية والعدالة والقانون والأغلبية والأكثرية والأحزاب السياسية وما إلى ذلك، لكن الواقع الحقيقي مغاير تماما على الأرض للشعارات الرنانة؛ فنرى شعار النظافة مرفوعا عاليا في العاصمة العراقية لكن ذلك لم يمنع أن تكون بغداد أوسخ عاصمة عربية مثلا. أو نسمع ونرى ترويج مصطلح النزاهة وخطوطها التلفونية الساخنة لإقامة شكاوى ضد هذا الموظف في كل الدوائر الحكومية وغير الحكومية، ومع كل ذاك فالرشوة والفساد وشراء المناصب العليا في تصاعد وتقنين وأصبحت أمرا واقعا لا مفر منه. 

لكن الأسوأ من كل هذا وذاك كما أسلفنا، يكمن في تطبيقات التجربة الطائفية العرقية نفسها. فلأول مرة في التاريخ الإنساني نسمع بأن الأغلبية والأقلية السياسية لا تعتمد على أحزاب سياسية، إنما على تشتيت شعب متعايش منذ أكثر من ألف عام. ففي مفهوم حلفاء الاحتلال طالما أن عدد الشيعة وفق التقسيمات التي رسموها هم الأكثرية العددية، إذن ومن دون استئذان عموم معتنقي هذا المذهب فرضت بعض الأحزاب الدينية نفسها كممثلة سياسية لعموم الطائفة، والأنكى من ذلك أن الحزب الإسلامي السني حذا حذوهم. إنها سابقة لم يسبقنا أحد في العالمين من الأولين والآخرين. هذه البدعة المستهجنة حرمت الكثير من الشرائح العراقية الأخرى المساهمة في بناء العراق؛ فالشعب العراقي لا يتكون من شيعة وسنة وأكرادا فقط، إنما هناك مكونات أساسية وأصيلة أخرى كالتركمان والمسيحيين والصابئة والأزيديين. نعم فبعد أن أهملوا مبدأ المواطنة لماذا إذن يحق تأسيس البيتين الشيعي والكردي ولا يحق للآخرين بناء بيوتهم؟ إن خلق هذه اللعبة الظالمة الجائرة ضد السنة العرب تفسر وكأنها عقاب جماعي لهم أو غنيمة حرب سمحت أمريكا باستباحتها للطرفين المتحالفين معها؛ عقابا على مقاومتهم احتلالها غير الشرعي. أخيرا وبالنتيجة لن يتمكن هذا البلد أن يعود إلى سابق عهده، وينجو من الحروب والتشرذم والفساد ما لم تسقط هذه المعادلة غير المتعادلة.



(نقلا عن صحيفة القدس العربي)