ملفات وتقارير

قتل المرتد حد شرعي أم تدبير سياسي؟

تنظيم الدولة نفذ العديد من عمليات الإعدام لمتعاونين مع النظامين السوري والعراقي - يوتيوب
غالبا ما يفضي الحديث عن حرية الاعتقاد في الإسلام، إلى استدعاء حد الردة، كهادم لأطروحة دعاة الحريات في الإسلام، باعتبارها قيمة أصيلة فيه، ليلقي في وجوههم ذاك السؤال الاستشكالي: كيف تتغنون بتلك الحرية في الوقت الذي يُكره فيه المرتد عن الإسلام للرجوع إليه مرغما، فإن أصر على موقفه فدمه حلال ومصيره القتل؟

جمهور علماء المسلمين المتبنين لقتل المرتد كحد شرعي ثابت، يصرحون بأن "الإكراه قد يكون إكراها بحق، وقد يكون إكراها بباطل، فالأول: كإكراه من امتنع من الواجبات على فعلها مثل إكراه الكافر الحربي على الإسلام أو أداء الجزية عن يد وهم صاغرون، وإكراه المرتد على العود إلى الإسلام.." طبقا لابن تيمية في مجموع فتاويه.

يقوم مذهب جماهير الفقهاء في دفع التعارض بين قوله تعالى:{لا إكراه في الدين..} والآيات المماثلة لها، وبين ثبوت حد الردة في السنة القولية على "أن الآية عامة، وأحاديث قتل المرتد خاصة، ولا تعارض بين العام والخاص.. فالآية مخصصة بتلك الأحاديث"، بحسب باحثين شرعيين.

لكن نفاة ثبوت حد شرعي للردة من المعاصرين يجادلون بعدم "وجود حد شرعي للردة في السنة الفعلية.. وأنه لم يرد ما يعارضه في السنة القولية.. مع عدم وجود هذا الحد في القرآن المجيد "المصدر المنشئ الأوحد لأحكام الشريعة"، وفقا لمحاججة الفقيه والأصولي العراقي الدكتور طه جابر العلواني في أطروحته المشهورة (إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم). 

حد الردة هادم لحرية الاعتقاد في الإسلام؟

كيف ينظر من لا يرى حد الردة في الإسلام إلى تأثيره على حرية الاعتقاد في الإسلام؟ يرى أستاذ علم الأديان المقارن في جامعة آل البيت الأردنية، الدكتور عامر الحافي، أن حرية الاعتقاد في الإسلام قيمة أصيلة فيه، وأن حد الردة، وفق المفهوم الشائع وتطبيقاته المعروفة، يخلخل بنيان حرية الاعتقاد، لأنه ينتصر للإكراه، ويجعل قطع الرؤوس هو الحل عوضا عن مقابلة الفكرة بالفكرة والكلمة بالكلمة.  

ويناقش الحافي بأن حد الردة ابتداء لم يُذكر في القرآن الكريم، وأن الأحاديث القولية الواردة في إثباته، يمكن فهمها وفق ما فهمه الدكتور طه جابر العلواني، أو الدكتور محمد عمارة، ومن قبلهم الشيخ محمد الغزالي بحملهم الردة على مفهوم الخيانة العظمى، كالخروج على نظام الجماعة، وتهديد استقرارها الفكري والسياسي، وليس في بعدها الاعتقادي الفردي.

لكن، كيف يمكن التعامل مع الأحاديث الصحيحة الواردة في إثبات حد الردة؟ أوضح الدكتور الحافي أن حديث "من بدل دينه فاقتلوه" يمكن فهمه على أن الدين هنا يعني الحكم، كما في الآية الأخرى {ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك}، وحديث (التارك لدينه المفارق للجماعة)، باعتباره فعلا خارجا عن نظام الجماعة وقانونها العام.  

وفي رده على سؤال "عربي 21" حول تطبيق حد الردة في التاريخ الإسلامي، أكدَّ الحافي أن المسلمين في غالب حقبهم التاريخية لم يقيموا حد الردة على أصحاب الأفكار والآراء الدينية المخالفة للثقافة السائدة، كمحي الدين بن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض وغيرهم من الفلاسفة المسلمين، ومن تم قتلهم كالحلاج والسهروردي حالات استثنائية مرتبطة في غالبها بظروف سياسية، ولم تكن دينية محضة.

وحول ما يقوله دعاة تطبيق حد الردة، من أن الحامل لمنكريه على إنكاره، إنما هو تأثرهم بالثقافة الغربية في دعوتها إلى حرية الاعتقاد، رفض الحافي هذا القول، واصفا رؤيته في هذه القضية بأنها ذاتيه تنبع من فهم شرعي أصيل، وليست تأثرا بالفكر الغربي، منتقدا ذاك السلاح الذي يشهره المحافظون دائما في وجه دعاة الإصلاح والتجديد بأنهم منهزمون أمام الفكر الغربي، كما حدث مع الشيخ محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وغيرهم من دعاة التجديد.
 
(لا إكراه في الدين) لا تتعارض مع حد الردة

في المقابل، فإن مثبتي حد الردة والداعين إلى تطبيقه، يعترضون ابتداء على قصر معنى الآية التي يحتج بها منكرو حد الردة على المعنى المتداول في تقريراتهم، باعتبارها قاعدة كليه تتعارض مع أحاديث قتل المرتد، ويذكرون أن المفسرين أوردوا لها وجوها متعددة من التأويل طبقا للداعية والباحث الشرعي عبد الفتاح عمر.

ينقل عبد الفتاح عمر عن الإمام القرطبي قوله: "اختلف العلماء في هذه الآية على ستة أقوال: منها أنها منسوخة بالآية (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين)، ولأن النبي عليه الصلاة والسلام قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم، والقول الثاني: ليست بمنسوخة، وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية.

وحول ما يقوله منكرو حد الردة بخصوص الأحاديث المثبته له، استغرب عبد الفتاح عمر في حديثه لـ"عربي 21" هذا اللون من التأويل، فالأحاديث صريحة في دلالتها على قتل المرتد المبدل لدينه، وعلى استحلال دمه بعد أن كان معصوما، متسائلا: ما الحامل لهم على هذا التأويل المتكلف والبعيد جدا جدا؟ 

وفي مناقشته لما استدل به منكرو حد الردة من أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يطبق حد الردة، مع وقوع بعض حالاتها في زمانه، كحديث جابر في صحيح مسلم أن أعرابيا بايع رسول الله (وفي البخاري على الإسلام)، فطلب منه قائلا: "أقلني بيعتي" فأبى.. وكواقعة عبد الله بن أبي السرح حينما ارتد، ثم شفع له عثمان بن عفان حين فتح مكة، وقبول الرسول شفاعته ولم يقتله. 

فوفقا لعبد الفتاح عمر، فإن حديث جابر مختلف في روايته بين بيعة الأعرابي للنبي على الإسلام ومبايعته له إماما، والأرجح أن بيعته كانت على الإمامة، أما قصة عبد الله بن أبي السرح، فقد تاب عن ردته، ورجع إلى الإسلام، فلماذا يطبق عليه حدها بعد رجوعه إلى الإسلام؟

حد الردة: إشكالات وجوابات

من جانبه، ناقش الأكاديمي الشرعي السعودي الدكتور الشريف حاتم العوني منكري حد الردة، وخاصة أطروحة الدكتور طه جابر العلواني، بأنها تعود إلى أصل كلي عنده، وهو أن السنة النبوية لا تستقل بإنشاء الأحكام الشرعية، مع إنكاره لحجية الإجماع. 

وفي رده على سؤال "عربي 21" حول ما يثيره منكرو حد الرده بسبب معارضته للأصل الكلي (لا إكراه في الدين)، رأى الدكتور العوني أنه استشكال قوي، وللخروج منه، فإنه يدعو إلى تفعيل ما قاله بعض الفقهاء في استتابة المرتد، التي تعني الحوار والنقاش المفتوح لإزالة كافة الشبهات والاعتراضات والاستشكالات، حتى لا نقع في محظور الإكراه. 

لكن ما هو الموقف الشرعي في حالة إصرار "المرتد" على موقفه بعد كل جولات الحوار والنقاش؟ أوضح العوني أنه إن أصر على موقفه بعد إزالة كافة الشبهات والاعتراضات، فإنه يكون معاندا، ويقتل حينها لعناده، بسبب ما يحدثه من فتنة وبلبلة في المجتمع الإسلامي. 

وحول المستند الشرعي الذي يجيز قتل المعاند، أرجع العوني ذلك إلى الالتزام بقيم الحضارة الإسلامية، كتعظيم التوحيد، وعدم السماح بالطعن في دين الأمة وثوابتها، كما في سائر حضارات الدنيا، التي تتواضع على جملة من القيم والقوانين تكون ملزمة لكل مواطنيها.

ومن الجدير بالذكر أن للدكتور السوري محمد سعيد رمضان البوطي رأيا مغايرا بخصوص حد الردة، يفرق فيه بين الأحكام الشرعية التبليغية التي تأخذ صفة الثبات والديمومة، كتحريم الربا والخمر، ووجوب القصاص.. وبين تلك التي فعلها الرسول من قبيل السياسة الشرعية، بصفته إماما للمسلمين، مدرجا حكم الردة في الصنف الثاني منها، فلولي الأمر أن يسجن المرتد، وله أن يتركه، أو يفعل به ما يراه يحقق المصلحة العامة الراجحة. 

تبقى خطورة تطبيق حد الردة في حالة توظيفه أداة وذريعة في الصراعات السياسية، حيث يصار إلى قتل الخصوم السياسيين وتصفيتهم بذرائع دينية، بعد إنزال وصف الردة عليهم، واعتبارهم مرتدين وفق أصولهم وقواعد فهمهم للدين وأحكامه، كما نرى تطبيقاته الشنيعة في ساحات الصراع المحتدمة في العراق وسوريا هذه الأيام.