كتاب عربي 21

وصار للقبر عنوان!

1300x600
بين أشجار غابة بجبال الجزائر العميقة، يبحث "الجهادي" التائب رشيد عن شيء ما ليريه للصيدلاني (لخضر) وزوجته. لحظات بحث مثيرة بين الأحراش تنتهي بإشارة من رشيد إلى قبر صغير. ترتمي الأم على القبر بكل قواها محاولة نبشه لاستخراج عظام ابنتها المختطفة من طرف جماعة مسلحة منذ خمس سنوات. تنبش بقوة وهي تصرخ باسم ابنتها تحت نظرات التائب الباكية. أخيرا أصبح لابنتها الفقيدة عنوان وصار بإمكانها أن تبكي فراقها كما الأب المكلوم. إنه حال آلاف العائلات الجزائرية التي فقدت ذويها في حرب أهلية مجنونة أتت على الأخضر واليابس في الجزائر دولة ومجتمع.

على طول البلاد العربية وعرضها مقابر جماعية وفردية بلا عناوين ولا أرقام حيث ترقد جثامين من ينعتون في الأدبيات الحقوقية بالمختفين. في مغرب سنوات الرصاص، وجزائر العشرية السوداء، وتونس تصفيات ما بعد الاستقلال، وليبيا القذافي، ومصر النظام العسكري، وسوريا الأسد ماضيا وحاضرا، ولبنان الحرب الأهلية وعراق البعث وأيام الطوائف والنحل ... وغيرها من بلدان عربية لم يكن الصراع السياسي فيها يعرف لأخلاقيات الحرب مكانا، لا تزال أسماء المختفين تتناقلها العائلات جيلا بعد جيل وسط صمت مطبق من جميع تجار الحرب في أغلب الأحيان. صور بأسماء وملامح كان لابد لها أن تقض مضجع السفاحين إن كان لهم من ضمير قابل للاستيقاظ ولو بعد فوات الأوان، أو أن ترسم لسفاحي العهود "الجديدة" مسارا أفضل من سابقيهم في الإجرام وسفك الدماء. لكن هيهات هيهات...

بعد فيلمي (باب الواد سيتي) و(العالم الآخر) اللذان كان محورهما الأساسي هو الإسلام السياسي والعنف  "الجهادي" بالجزائر، يعود مرزاق علواش إلى النبش فيما اصطلح على تسميته بالعشرية السوداء من تاريخ الجزائر المعاصر. لم يغب الموضوعان أبدا عن كل أفلام علواش عن الجزائر بل تفاوت التركيز عليهما من فيلم لآخر. ويبدو الوضع طبيعيا إذا أخذنا بعين الاعتبار التأثيرات السياسية والأمنية والمجتمعية التي أفرزتها أحداث تلك السنوات القاسية على المجتمع الجزائري بمختلف مكوناته وتوجهاته.

التائب، فيلم يستعرض قصة فرار "الجهادي" رشيد من الجبل حيث يتحصن المسلحون أو من بقي منهم بعد إعلان السلطة الجزائرية عن تطبيق قانون الوفاق المدني نهاية تسعينيات القرن الماضي، كحل أخير يروم وقف دوامة العنف، بعد أن وصلت إلى حدود غير معقولة اختلطت فيها الأوراق مخلفة مجازر حقيقية، لم يعرف الواقف وراء كثير منها رغم مرور كل هذه السنوات.

قانون الوفاق المدني شكل المرجعية السياسية للفيلم. لكن المحرك الرئيسي للأحداث هو قانون الصمت المفروض على الشعب الجزائري ويمنعه إلى اليوم عن إطلاق نقاش علني مجتمعي يستعيد أحداث العشرية السوداء رغبة في فهم ما جرى ولم لا البناء عليه لتفادي العودة إليه مجددا مع ما تعرفه المنطقة من مد "جهادي" عنوانه الأكبر تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام وفرعه الليبي الواقف على الأبواب و"النشيط" خطفا وذبحا وتقتيلا.

يهرب رشيد من جماعته ويسلم سلاحه للسلطات التي تتعامل مع الأمر كمسلمة بديهية فلا بحث فيمن تلطخت أيديهم بالدماء ولا سؤال عن الماضي المشبوه. لكن الرغبة في استغلال الوضع تظل قائمة بمحاولة تجنيد "التائبين" للعمل مخبرين. هي السلطة تأخذ باليد اليسرى ما قدمته باليمنى. عفو عن "خيانة البلد" مقابل السقوط في مستنقع "خيانة المجتمع".

لم يكن ممكنا البتة أن يتناسى الناس معاناتهم ويتغاضوا عن حقوق ضحاياهم امتثالا لقرار سياسي فوقي. هكذا يجد "التائبون" أنفسهم بين مطرقة استغلال السلطة وسندان الرفض المجتمعي إضافة لملاحقة "الإخوة" السابقين لهم انتقاما لخيانتهم. ولأن احتمال وضع كهذا الذي ينضاف إلى كوابيس ما عاشه "الجهاديون" من لحظات مروعة أمر غير قابل للتحقق، لم يعد أمام رشيد إلا البحث عن منفذ يمكنه من الهجرة خارجا بعيدا عن ماضيه المأساوي وحاضره المريب. هنا تتكشف بعض ملامح المعاناة التي يعيشها معظم الجزائريين في صمت رهيب. فما حدث في العشرية السوداء من صنف ما لا يمكن حكيه أو الحديث عنه بسهولة، وفي تجاهله وتناسيه بوادر شقاق وصراع مؤجلين ولو إلى حين.

وفي ظل أوضاع مادية كارثية كان لزاما البحث عن منفذ يرتكز على النبش في ذكريات الماضي الأسود الذي يجنح إليه رشيد بحثا عن شيء ما يستحق "البيع". يتصل بـ(لخضر)، الصيدلاني الذي يقضي معظم وقته داخل صيدلية لا يتوفر فيها الدواء إلا لماما، قبل أن ينتقل إلى بيته المتواضع لمعاقرة الخمر ومشاهدة قناة صينية لا يفهم من لغتها حرفا. إنه الهروب من كل شيء يربطه بواقعه المستمر منذ خمس سنوات خلت فقد خلالها البنت وانفصل عن الزوجة. صحيح أن الاتصال الهاتفي شكل نقطة إحياء للذكرى المريرة، لكنه قد يكون أيضا فرصة مناسبة للمصالحة مع الذات ومع الآخر /الزوجة. 
هنا انطلقت رحلة السعي لاستعادة حياة مختطفة ملؤها القهر والاستعباد. 

كان لقاء الثلاثة صامتا وكأنه لحظة غير مرغوب فيها، فوطأة وجلالة الموقف أكبر من تتحمله أفئدة مكلومة في فقدان فلذة الكبد أو ضمائر مثقلة بأسرار وأفعال شائنة لا يتحملها بشر. لكن القلوب قست والدموع تحجرت في العيون وليس من إمكانية للتراجع أو العودة عن الهدف. وكانت رحلة التنقل إلى الغابة الجبلية على طول الطريق الخلاء خير تعبير على الصمت المطبق المفروض على الجميع، فلا أحد تملك الشجاعة الكافية للبدء بالحديث. الصمت تعبير على الكبت السياسي والمجتمعي الذي يعيشه الثلاثة ومن خلالهم مجتمع جزائري لا يزال يجر تبعات تفرد الحزب الأوحد والفكر الشمولي بالسلطة رغم كل رتوشات التغيير التجميلية التي يفترض أن التعددية والحرية يشكلان أساسا لها.

 وكان لابد من كسر الصمت..

استطاعت الأم المكلومة أن تنطقها أخيرا: إحك لي ما جرى. 

تتكشف معالم الجريمة واضحة. فقد كان جار العائلة من ساعد على اختطاف البنت الصغيرة انتقاما من الأب الذي رفض تزويد منتسبي الجماعة المسلحة بالدواء بعد أن ألف القيام بذلك لفترة. لم تتحمل الأم أن تسمع التائب ناعتا قتلة ابنتها بـ"الإخوة" وهو الذي طالبها بالمال مقابل إرشادها لمرقدها الأبدي، ولم تغفر لوالد الطفلة "تعاونه" مع القتلة أنفسهم فكانت لحظة مصارحة تأخرت لسنين. لأجل هذا توافق الجميع بالجزائر أو يكادون على السكوت وعدم النبش في جراح الماضي خوفا مما يحمله من أسرار ومفاجآت على غير التوقع لن تزيد الجراح إلا آلاما. 

تحت أشجار الغابة الجبلية الكثيفة، يبحث "الجهادي" التائب رشيد عن شيء ما ليريه للصيدلاني (لخضر) وزوجته. لحظات بحث مثيرة بين الأحراش تنتهي بإشارة من رشيد إلى قبر صغير. ترتمي الأم على القبر بكل قواها محاولة نبشه لاستخراج عظام ابنتها المختطفة من طرف جماعة مسلحة منذ خمس سنوات. تنبش بقوة وهي تصرخ باسم ابنتها تحت نظرات التائب الباكية. أخيرا أصبح لابنتها الفقيدة عنوان وصار بإمكانها أن تبكي فراقها كما الأب المكلوم.

لم يكن ينقص المشهد القاسي غير فلول "الجهاديين" المتحصنين بالجبل والأجهزة الأمنية المسيطرة على كل المداخل والمخارج لتكتمل أجزاء الصورة المركبة. لم يتأخر الرد كثيرا حيث تتسارع أشباح رجال بلا ملامح لتنهي المشهد بإطلاق النار على الثلاثة وتصفيتهم.

الجريمة الأخيرة غير واضحة الملامح إذ اختار المخرج في لحظة من اللحظات السينمائية القليلة في الشريط أن يكتفي بالسواد وطلقات الرصاص وقولة (الله أكبر) لينهي "الحكاية" ومعها رتابة الشريط، ويفتح في الآن نفسه جرحا عميقا في الجسد الجزائري طارحا أسئلة موجعة عمن قتل وما زال يقتل في أبرياء بلد المليون شهيد.

انطلقت قصة الشريط من رسالة حقيقية بعث بها قارئ إلى إحدى الصحف الجزائرية يشكو فيها اتصال أحد "التائبين" يعرض عليه إرشاده لمكان قبر أحد ذويه المفقودين مقابل قدر من المال. لم يتم تتبع القصة حتى النهاية فقرر مرزاق علواش تحويلها إلى شريط سينمائي توثيقا لحقبة ما بعد قانون الوئام المدني. تجمع القصة في ثناياها كل مقومات القوة الدرامية. لكن علواش لم يوفق في تحويلها لشريط مشوق. كان الإيقاع بطيئا حد الملل دون موسيقى تصويرية في اختيار درامي غير مقنع. ولولا الأداء الرائع لبطلة الشريط عديلة بنديمراد التي وفقت في نقل مشاعر الأم المكلومة لما كان في الشريط شيء يستحق الذكر. لكنه يبقى اليوم، مع ما تعرفه الساحة العربية من أوضاع ربما تكون أكثر قتامة من العشرية الجزائرية السوداء، شهادة حية عن تجربة مريرة كان مفترضا أن تشكل نبراسا للبقية يستنيرون بها الطريق لمستقبل أفضل. 

لنتذكر فقط أن الألم الجزائري كان منطلقه إصرار العسكر على التحكم في الحياة السياسية والمجتمعية بالبلد عبر وأد تجربة ديمقراطية وليدة وغير مسبوقة أعلنت في ختامها على فوز حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ بانتخابات البرلمان على إثر ما سمي وقتها بالربيع الجزائري. اليوم، يعيد التاريخ نفسه ويطلق الكثيرون التصريحات والدعوات للجزأرة. لا متعظ من التاريخ ولو كان قريبا..