قضايا وآراء

هيئة حكماء العالم الإسلامي

1300x600
من الواضح أن الأزمة اليمنية الأخيرة تتجه لحل سياسي ،حسب مقتضيات مصالح الجهات المعنية المحلية والإقليمية والدولية ، وما كان لها - وفق هذه المصالح إلا أن تنتهي إلى هذا الاتجاه؛ لأنها لم لا تحتمل أكثر من ذلك - والمؤلم كثيرُُ بالطبع لكن أذكر أمرين هما: :

- الضحايا الذي قضوا من المدنيين خصوصا .

- حال كثير من العلماء الذين استزلهم السياسيون - في كلتا الضفتين المتقابلتين - إلى ميدان سياسي تحركه المصالح والتوازنات أولا وأخيرا ، تحت الأردية الطائفية المذهبية ، فأمطروا الجماهير بوابل من الفتاوى والتجييش للمعركة في صورتها الجهادية ضد العدو . وفجأة يعلن عن وقف هذا الجهاد الذي يصعب العثور على أسانيد شرعية لوقفه في سياق المسار الإفتاء الذي وضعت فيه الأمور ، فيجد ذاك البعد الشرعي الذي أسند إليه الفريقان ظهر المعركة ، عاريا أمام الفراغ الذي لا يجد ما يقال فيه وأمامه ، ويبدون كمن أُسقط في يديه ؛ كيف يخرج على الجماهير بما يصلح حالهم مع ربهم في ميدان فقدوه فجأة كي يحققوا لأنفسهم أغلى أمنية عند المسلم الحق وهي الموت شهيدا في سبيل الله . 

أليست مأساة أخرى يشهدها العلماء على أيدي السياسيين الذين لا يخسرون كثيرا ، لا في حالة الحرب ولا في حالة السلم؟!!! لا مناص من خروج علماء مستقلين يجمعون إلى الملكة الفقهية الشرعية ، الخبرة والحنكة السياسية ، كي يواجهوا أمور المسلمين على بينة من أمرهم ومن دينهم ، ودنياهم ، لا يعنيهم من أمر الناس إلا ما يعتقدونه إرضاء الله تعالى وحده لا شريك له . فيقفون من الأمور كلها مسافة واحدة ، لا يقتربون ولا يبتعدون من أمر أو جهة إلا بما وافق الشرع الحنيف، وحقق مصلحة المسلمين . 

لقد برهن تاريخ المسلمين أن العلماء الذين أثروا تأثيرا عميقا ثبت على الزمن ، هم أولئك العلماء المستقلين الذين لم ترهبهم صولة السلطان ، ولا ازدهتهم جلبة الجماهير ؛ فكانوا يواجهون كُلا بما ينبغى أن يُواجه به ويُوجه له .

إن للعصر أحكامه ومنطقه ؛ وعصرنا أفضى إلى سمة جوهرية حاسمة في كل شأن ، تجعل عمل ومسلك  من تجاهلها عُرضة للزلل الجسيم ، وما يترتب عنها قد يودى بمجريات الأمور إلى ساحق أودية المجهول و وبال المآل، مما يجعلها تحت طائلة (زلة العالم ) التي يختلف أثرها عن زلة غيره ، بمقدار ما أُوتي من علم بهداه الناس تقتده .

إنها سمة التخصص العلمي والمعرفي ؛ وحركة العالم الآن صارت محكومة في شرورها وخيراتها بقواعد وإجراءات ، وخطط ضُبطت على ضوء ورعاية من تلك المعارف والعلوم ؛ لذا فالواجب على علماء الأمة المستقلين إن انبثقوا للوجود مرة أخرى على ما كان عليه سلفهم الميامين : جرأة في الحق ، وحكمة في النظر ، وبصيرة في الرأي ، أن يترووا - في الشأن السياسي - فلا يذهبون في أموره ، وقُلَب حوادثه المتناقضات إلا إذا خبروه خبرة السياسي  -- من أهله الثقاة طبعا - المختص في تقدير الأمور على بينة من علم السياسة ، وخبرتها الميدانية .

وعندئذ يكون لرأيهم الشرعي المستند المعرفي والخبرة الميدانية ، ما يرفده بالمعطيات الكافية كي ينضج ، ويصدر بميزان القسط ، ويقدم للناس حكاما ومحكومين الوصفة الشرعية يجلَلها وقار الشريعة، وهيبة الإعلام عن الله تعالى، خالصة لوجهه الكريم ، بريئة من مُستزلات المنتفعين من السياسيين، والمائجين من الجماهير المنفعلة ، بتأثير اللحظة . 

بل عليهم أن يضطلعوا بواجب الرقي بمستوى الجماهير الثقافي  والفكري ، حتى يستردوا كرامتهم المائعة في برك نزوات ورغائب السياسيين وأصحاب الجاه والمال ، ومن انسلك في زمرتهم ممن أبتليت بهم أمة العرب والمسلمين، قرونا عدة . 

لعل مآسينا التي لا تريد أن تنتهى ، أو لا نريد لها نحن عزما يتجه لإنهائها ، تدفع للتفكير المُلحَ العاجل إلى  أن يبادر مجموعة من أهل الحكمة والرأي السديد في كل الأمة إلى إطلاق مشروع إسلامي يسمى (هيئة حكماء العالم الإسلامي )، تضم إليها كل ذي رأي راجح ، وحكمة سديدة ، وتجربة طويلة ، ومعرفة عميقة بأحوال العالم الإسلامي ، وطبيعة العصر . من كل الطوائف والبلاد الإسلامية . شريطة ألا يكون أعضاؤها موالين لأي نظام سياسي موالاة مطلقة تحت أي ذريعة، ولا يتبنون مواقفه تبنيا أعمى . 

يضع هذا المجلس خطة عمله المتمثلة في تحديد وظائفه الكبرى لخدمة العالم الإسلامي، ومرتكز هذه الوظيفة الأساس تقديم المشورة والنصح ، والتقدم بالحلول التي تحقن الدماء ، وتُقرب بين وجهات النظر بين المتخاصمين. 

وسيجد العلماء المستقلون  أمكنتهم التي تليق بمقامهم في مقدمة وطليعة هذه الهيئة، التى تحتاجها الأمة حاجتها للماء والهواء ، لحاضرها ومستقبلها . من المؤكد أن أمتنا تكتنز من الحكماء المستقلين ما يوفر و يسمح للفكرة بالتحقق ، لكن الأمر في حاجة إلى ترويج فكري وإعلامي ، ونضال ، وتحمل عوائق وعراقيل ؛ لأن أصحاب المشروعات المجرمة ، والساسة البلداء و أصحاب المنافع العاجلة والسيطرة على الكرسي والخزائن من ناحية ، والقوى الاستكبارية المجرمة من ناحية أخرى أي الأعداء التقليدين للأمة سيقاومون مثل هذه الأفكار والطموحات المستقلة بكل ما أوتوا من وسائل وأسباب ودهاء وخبث ونذالة طبعا . ومع ذلك أعتقد أن الأفكار الطموحة تستحق التحمل والمسعى الحثيث لأجل تحقيقها ، خاصة إذا انطلقت من نية حسنة يُراد بها وجه الله تعالى لنفع أمة محمد صلى الله عليه وسلم وخيرها ، وردها عن الهاوية التي تهوي إليها .

ربما يكون  إحساس الجماهير بالخطر أعظم من إحساس الحكام  والنخب الغارقة في مصالحها الذاتية الضيقة على أعتاب مراضى السلطان ، فيؤازرون هذا المشروع لو ظهر للوجود .

والله يقول الحق وهو خير الحاكمين . اللهم أبرم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من أمرها رشدا .