قضايا وآراء

الإعلام التونسي والملف الليبي.. بين التضليل والتحريض

1300x600
لم يعد خافيا أن الأحداث الجارية في ليبيا منذ الثورة تنعكس انعكاسا مباشرا على تونس في أمنها واقتصادها وسياستها وحتى في مكونها الاجتماعي، بحكم اتخاذ أكثر من مليون ليبي تونس مستقرا لهم هربا من الأوضاع الأمنية والسياسية والمعيشية السائدة في ليبيا.

من نافلة القول التذكير بأن أحكام التاريخ والجغرافيا تفرض على تونس أن يكون أمنها الوطني ومصالحها الاستراتيجية في طرابلس ومصراتة وبنغازي والزنتان، كما تفرض عليها التعاطي مع الأحداث الجارية هناك على أنها شأن داخلي تونسي بامتياز.

أحكام التاريخ والجغرافيا وحقائق الجوار وما يجري في ليبيا من صراع دموي بأدوات داخلية وخارجية لم تكن، طيلة السنتين الأخيرتين، دوافع كافية لصياغة استراتيجية سياسية وأمنية وإعلامية رسمية فاعلة ومتناغمة للعب دور مؤثر في المشهد الليبي والتوقي من ارتداداته أو حتى فهم تفاصيله. 

التخبط الدبلوماسي التونسي تجاه البلد الجار لم يعد خافيا وبلغ مراحل تنذر بتعقيدات تتفاقم يوما بعد يوم، ترحيب وزير الخارجية الطيب البكوش بالقصف الجوي المصري على درنة من منطلقات إيديولوجية، ثم التراجع، تحت ضغوط خارجية وإقليمية، وإعلان الحياد والوقوف على نفس المسافة من طرفي النزاع في ليبيا، ثم الإعلان عن فتح قنصليتين تونسيتين في طرابلس والبيضاء، وتفويت الفرصة على تونس في احتضان الحوار الوطني الليبي، كلها مؤشرات دالة على حالة التخبط والعشوائية والمزاجية التي باتت تحكم الدبلوماسية التونسية تجاه المحرقة الجارية على الحدود..

القصور السياسي والدبلوماسي والأمني ليس العامل الوحيد الذي يضع المصالح التونسية في ليبيا في مهب الريح، التعاطي الإعلامي مع مجريات المشهد الليبي مثّل، هو الآخر، عامل تدمير حقيقي لهذه المصالح.. حالة الفلتان الإعلامي الموجّه من لوبيات سياسية ومالية واستخبارية باتت تؤدي دورا خطيرا في توجيه الرأي العام بأساليب ضربت عرض الحائط بكل أخلاقيات المهنة، كذب واختلاق وتضليل وتحريض وشراء ضمائر، تدمير ممنهج لعلاقات الجوار ولمصالح الشعبين وبث معلن للفتن وأسبابها، صحيح أن وسائل الإعلام التونسية لم تكن كلها على نفس المنهج في التعاطي مع الملف الليبي، غير أن القنوات التلفزيونية والإذاعات والجرائد الأكثر تمويلا ومتابعة، بما فيها الحكومية، انخرطت جميعها في مسار بعيد كل البعد عن المهنية..

اكذب.. ثم اكذب.. ثم اكذب

من أبجديات المهنة الإعلامية التي يتلقاها أي طالب وطأت قدمه كليات الصحافة أن "الخبر مقدس" وأن الموقف السياسي والفكري والعقائدي أمر منفصل عن نقل الخبر كما هو، ناهيك عن اختلاق أخبار لا أساس لها.. انطلقت عملية "الاختلاق" عن الملف الليبي في وسائل الإعلام التونسية منذ أربع سنوات غير أنها تسارعت في السنة الأخيرة، وصار الأمر أشبه بسيناريوهات مسيرة من طرف غرفة عمليات وليست مجرد أعمال هواة.. أكذوبة تختلقها صفحات فيسبوك محسوبة على لوبيات سياسية ومالية ثم تحولها الإذاعات إلى أخبار في نشراتها على أنها من "مصادر موثوقة" لتنتهي في برامج حوارية تلفزيونية يدعى إليها سياسيون و"محللون" وتبنى على أساسها مواقف.

وما يزيد خطورة هذه الممارسة اختلاق أكاذيب من شأنها تجييش الرأي العام وشحنه، ما قد يؤدي إلى نتائج غير محسوبة.. منذ ثلاث سنوات ألقيت فتاة من أعلى فندق "الأنرناسيونال" بالعاصمة إثر شجار مع أصدقائها.. جريمة قد تحدث في أي من عواصم الدنيا.. بعدها بدقائق تبث إذاعة محسوبة على نظام الدكتاتور الهارب بن علي خبرا مفاده أن ليبيين هم من يقف وراء قتل الفتاة، وتنقل عن شهود عيان، لم تسمّهم، وعن مصادر اكتفت بوصفها بـ"المطلعة" ما يؤكد روايتها.. وفي أقل من ساعة تحول الشارع الرئيسي بالعاصمة إلى مسرح لمسيرة تنديد بالجريمة، وكان على الرأي العام أن ينتظر يومين ليخرج مسؤول أمني وينفي الرواية التي أوردتها الإذاعة..

بعد تلك الحادثة بأيام، أوردت قناة تلفزيونية، محسوبة هي الأخرى على نظام بن علي، أخبارا تفيد بتعرض تونسيين في ليبيا للقتل والسطو على سياراتهم إضافة إلى تعرض دورية حدودية للهجوم، ما أدى إلى مقتل عدد من أفرادها.. ولم تكتف القناة ببث الخبر بل استضافت "محللين" و"خبراء" لمناقشة نتائجه وانعكاساته.. ووسط جو مشحون انطلقت ردود الأفعال على جانبي الحدود وتم تهشيم عشرات السيارات الليبية في تونس ومثلها من السيارات التونسية في ليبيا وأصيب مسافرون أبرياء بجروح ونهبت أموال آخرين، ليتبين، فيما بعد، أن ما تم ترويجه إشاعة لا أساس لها من الصحة..

التعاطي مع قضية اختفاء الإعلاميين التونسيين سفيان الشورابي ونذير القطاري في ليبيا لم يشذ عما اعتاده متابعو الحدث الليبي في وسائل الإعلام التونسية.. بعد أشهر من اختفاء الرجلين، وبدون سابق انذار، أشاع أحد المواقع أنه حصل على "معلومات أكيدة" بإعدامهما، ونشر صورة غير واضحة أكد أنها لعملية الإعدام.. بعدها بقليل نصبت إحدى الفضائيات مجلسا للإعلاميين و"الخبراء" و"المحللين"، وتحول الخبر إلى حقيقة لا تقبل النقاش رغم أن لا أحد قدم أي دليل على ذلك، ورغم أن جميع المتابعين لهذا الملف يعرفون أن الحكومة التونسية نفسها لا تمتلك، حتى الآن، أي معلومة عن مصير مواطنيها. وبنيت على هذا الخبر المختلق مواقف وصلت حد المطالبة بغلق الحدود وطرد الليبيين المقيمين في تونس.. ليلتها اتصل عدد أفراد النخبة الليبية في تونس بكاتب هذا المقال معبرين عن خوفهم على حياة أفراد الجالية الليبية المقيمة بتونس وامتعاضهم من التحريض والتجييش الذي تمارسه هذه القناة، فتم الاتصال بعدد من وسائل الإعلام للدعوة إلى التحري في الأخبار قبل نشرها، غير أن جميع القنوات التي تم التواصل معها رفضت ذلك.. هذه أمثلة من الأكاذيب التي تم ترويجها، والقائمة أطول من أن تحصر.

تضليل ممنهج ومحسوب

لم تتوقف وسائل الإعلام عند اختلاق الأخبار الكاذبة، بل مارست تضليلا ممنهجا، مستغلة جهل أغلب التونسيين بتفاصيل المشهد الليبي وبالجغرافيا الليبية وبمجريات الأحداث هناك.. عندما تم قصف درنة بادرت وسائل الإعلام التونسية للترحيب بالهجوم المصري.. وتم تكييف الخبر بطريقة تظهره في خدمة الأمن والاستقرار على الحدود التونسية.. ووصل الأمر بأحد "الخبراء" إلى تقديم مدينة درنة على أنها مدينة متاخمة للحدود التونسية، في حين يعرف أي طالب مبتدئ أن درنة تبعد عن تونس ما يقارب الألفي كيلومتر..

الأمر نفسه تكرر، في المدة الأخيرة، عندما شهدت المعابر الحدودية توترا وعراقيل في حركة الأفراد والبضائع.. بادر نواب من المنطقة الحدودية بالاتصال بالجهات المسيرة للجانب الليبي والمحسوبة على جماعة "فجر ليبيا"، فقامت قائمة وسائل الإعلام، احتجاجا على التعامل مع "جهات إرهابية".. وطالب "الخبراء"، مرة أخرى، بمناقشة الوضع على الحدود مع "الجهات الرسمية الليبية" وتأمينها بالتعاون مع "الجيش الليبي".. ولم تذكر أي وسيلة إعلام أن "الجهات الرسمية" و"الجيش الليبي" ليس لديهما أي سلطة من سرت إلى الحدود التونسية، وأن أي تعويل عليهما في هذا الشأن لن يغير من الأمر شيئا، وأن الواقع على الأرض يفرض على السلطات التونسية التعامل مع الجهة المتحكمة بالحدود وهي، في هذه الحالة، جماعة "فجر ليبيا" أو حكومة الانقاذ الوطني المنبثقة عن المؤتمر الوطني العام، وأن المواقف المزاجية والفوبيا لا تنفع في هكذا وضعية.

منذ أسابيع شنت وسائل إعلام تونسية هجوما منسقا على آمر الحرس الوطني الذي تمت تسميته في عهد حكومة الترويكا السابقة.. واتهم آمر الحرس بدعم "الميليشيات الإرهابية" من خلال إرسال شحنة أدوية إلى مدينة الزنتان الليبية، وهي الشحنة التي تبين أنها تم تصديرها بطريقة رسمية وعلنية وعبر الجمارك في إطار اتفاقيات مع الدولة الليبية.. وتولت إحدى الفضائيات، في إطار حربها ضد آمر الحرس، "إعادة تشكيل" التحالفات القائمة في ليبيا على هواها، لتصبح الزنتان معقلا لأنصار الشريعة وحليفا لقوات فجر ليبيا، وليصبح عبد الحكيم بلحاج أحد قادة كتائب القعقاع الزنتانية.. هكذا اقتضت أحكام التضليل في الإعلام التونسي أن يكون المشهد العسكري والسياسي في الزنتان.