قضايا وآراء

انتخابات الصحفيين المصريين ودلالات التغيير

1300x600
أسفرت انتخابات نقابة الصحفيين المصريين التي جرت الجمعة الماضي بعد تأجيلها لمدة أسبوعين لعدم اكتمال النصاب في الدورة الأولى، عن تغييرات كبيرة في قيادة النقابة الأعلى صوتا في مصر على مدار العقود الثلاثة الأخيرة.

كان التغيير الأبرز هو الإطاحة بنقيب الصحفيين ضياء رشوان ووكيل أول النقابة جمال فهمي وهما الرأسان اللذان كانا يديران النقابة منذ انتخابهما معا قبل عامين (في الشهور الأخيرة لحكم الدكتور محمد مرسي)، وقد حولا النقابة إلى مقر شبه دائم لجبهة الإنقاذ بقيادة البرادعي، وشاركا بفعالية في أنشطة الجبهة، وتمكنا من تحويل قضية مقتل المصور الصحفي الحسيني أبو الضيف أمام قصر الاتحادية يوم 4 ديسمبر 2012 ضمن عشرة قتلى آخرين للإخوان إلى قضية رأي عام، ونجحا في تحويلها من قضية محلية إلى قضية دولية لتشويه صورة الرئيس وأنصاره. ولم يفعلا الشيء ذاته حين قتلت سلطة الانقلاب لاحقا 11 صحفيا، بل غلب عليهما التماس الأعذار لهذه السلطة بدعوى أن القتلى لم يكونوا صحفيين مسجلين بعضوية النقابة، أو أنهم لم يكونوا يمارسون عملا صحفيا أو أن قتلهم تم بطريق الخطأ غير المقصود.

تنافس كل من النقيب ضياء رشوان والوكيل الأول للنقابة جمال فهمي في تسويق الانقلاب العسكري، وتنقلا بين القنوات الفضائية والمحافل السياسية المحلية والدولية للترويج لهذه السلطة، على حساب حرية الصحافة المؤتمنين عليها بحكم موقعيهما، وعلى حساب حرية الصحفيين الذين يمثلونهم، والذين أصبحوا أكبر ضحايا الانقلاب العسكري حيث قتل منهم 11 صحفيا ومصورا، وأصاب العشرات وسجن أكثر من 150 لا يزال حوالي مائة منهم قابعين خلف القضبان. كما أنه أغلق 27 وسيلة إعلامية ما بين قنوات فضائية أو صحف أو مواقع إلكترونية إخبارية، وكل ذلك بالمخالفة للدستور الذي يحظر تماما الحبس في قضايا النشر ويحظر تماما إغلاق الصحف والقنوات. وبهذه المناسبة أذكر أنني شاركت ضمن وفد المجلس الأعلى للصحافة في وضع النصوص الخاصة بالإعلام في دستور 2012، ورغم المكاسب العظيمة التي حققناها في ذلك الدستور من حرية الإصدار الصحفي وجعله بمجرد الإخطار وللأشخاص الطبيعيين والاعتباريين، وحرية تداول المعلومات ومعاقبة من يمتنع عن الإدلاء بها، إلا أن نقيب الصحفيين المخلوع ووكيل النقابة تحديدا ظلا يزايدان علينا بدعوى أننا لم نستطع إلغاء الحبس في قضايا النشر، كما أننا لم نستطع منع إغلاق الصحف بشكل كامل (حيث ربطناه بصدور حكم قضائي نهائي)، وقد بادرا لتضمين التعديلات الدستورية في 2014 هذين النصين، ورغم ترحيبي شخصيا بذلك، إلا أن هذين النصين ظلا مجرد حبر على ورق بل تعمدت سلطة الانقلاب خرقهما (عيني عينك) بحبس الصحفيين وإغلاق الصحف والقنوات. والأدهى أن يتم ذلك في ظل صمت أو رضا نقيب الصحفيين ووكيله اللذين وضعا هذين النصين في لجنة الخمسين.

ما هي دلالات التغيير الكبير الذي حدث في نقابة الصحفيين إذن؟

الدلالة الأولى، هي ظهور تغير في المزاج الصحفي العام، فبعد أن كان هذا المزاج راضيا عن انقلاب الثالث من يوليو بحسبانه خلاصا لهم من سلطة كانوا يخشون نواياها تجاههم، إذ بهم يتبرمون من الحكم العسكري بعد أن اكتشفوا مع الوقت أنه الخطر الحقيقي على حرية الصحافة، وقد تبدى لهم ذلك في حالات القتل والحبس والإغلاق والمصادرة والمداهمة، والتي لم تقتصر على الصحفيين المناصرين للرئيس مرسي أو حزبه بل امتدت لصحفيين ومصورين لم يكونوا محسوبين يوما على فريق الشرعية، ومن هؤلاء الشهيد تامر عبد الرؤوف، الذي قتل في كمين للشرطة العسكرية إبان فترة حظر التجول، والشهيدة ميادة اشرف التي قتلتها الشرطة أمام بقية زملائها في مظاهرات في مثل هذه الأيام من العام الماضي.

هذا التغير في المزاج الصحفي لم يكن أمامه بدائل كثيرة، خاصة بعد مقاطعة التيار الإسلامي وتيار أنصار الشرعية عموما للترشح في هذه الانتخابات بحسبانها أول انتخابات تجري في ظل انقلاب عسكري، ولم يكن أمام الراغبين في التعبير عن غضبهم المكتوم ضد السلطة الحالية سوى المرشح المنافس يحيي قلاش الذي رغم انتمائه للتيار الناصري، الذي ينتمي إليه أيضا ضياء رشوان وجمال فهمي، إلا أنه يتمتع بوجه نقابي على خلاف الوجه السياسي الصارخ لزميليه الآخرين.

الدلالة الثانية، وهي مرتبطة نسبيا بالأولى وهي التعاطف المكتوم من الصحفيين مع زملائهم الشهداء والسجناء والذين لم تتحرك النقابة للتحقيق في مقتلهم أو حبسهم في ظل قيادة الثنائي رشوان/فهمي، وقد وجد هؤلاء الغاضبون بغيتهم في مرشح جهر بتبنيه لهذه القضية على الرغم من محاولات التخويف وحتى الاتهامات التي طالته بأنه يعمل لصالح الإخوان أو وفقا لأجندتهم. وأذكر هنا أن رشوان حاول تشويه خصمه قلاش بالادعاء أنه حصل على بيانات الصحفيين السجناء من كاتب هذه السطور في محاوله لضربه انتخابيا، رغم أنني أمددت بتلك المعلومات جهات عديدة مهتمة بالحريات الصحفية، ومن هذه الجهات نقيب الصحفيين ضياء رشوان شخصيا.

وما يجدر ذكره أيضا أن الصحفيين عبروا عن غضبهم خلال اجتماع الجمعية العمومية من خلال كلمات لمتحدثين أو من خلال الهتافات التي ترجمت إلى توصيات، أو عقب إعلان النتيجة مطالبة النقيب الجديد بالاهتمام بقضية السجناء.

الدلالة الثالثة، هي رفض الصحفيين لمحاولة إلحاق النقابة بالسلطة الحاكمة استمرارا لتوجه أصيل داخل الجماعة الصحفية المصرية، ورفض الصحفيون تحويل نقابتهم لمجرد بوق للسلطة الحاكمة تبرر لها أعمالها وتسكت عن جرائمها خاصة بحق الصحافة والصحفيين. ومن هنا لم تشفع لضياء رشوان تلك الرشوة الحكومية التي حصل عليها بزيادة قيمة البدل المالي الذي تصرفه الدولة للصحفيين، وأصروا على انتخاب المرشح المنافس.

الدلالة الرابعة، أن الصحفيين غضبوا على نقيب لم يعطهم إلا فضل وقته، بسبب انشغاله ببرامج فضائية يقدمها أو يتحدث فيها، وترك مشكلات النقابة والصحفيين تتراكم للدرجة التي أفقدتهم الأمل في حلها، ومن هنا وجدت دعاية المرشح المنافس يحيى قلاش حول ضرورة تفرغ النقيب للعمل النقابي صدى كبيرا في الجماعة الصحفية.

الدلالة الخامسة، أنه في ظل تصاعد الضغوط السياسية على حرية الصحافة، وفي ظل التراجع الاقتصادي لمصر، تراجع توزيع الصحف بدرجة كبيرة وتعرضت هذه الصحف لخسائر كبيرة دفعتها لتقليص العمالة بها، وهو ما تسبب في تشريد المئات من الصحفيين الذين أصبحوا بلا عمل، وقد لجأوا لنقابتهم لحمايتهم من رجال الأعمال أصحاب الصحف فلم يجدوا في النقابة السند الذي كانوا يتوقعونه نتيجة الارتباطات المالية والسياسية للنقيب ووكيله.

الدلالة السادسة، أن تغير المزاج الصحفي –وإن بشكل هادئ ومحدود- يظل مؤشرا على إمكانية تغيير المزاج الشعبي العام، وعلى إمكانية ظهور هذا التغير في أي انتخابات شفافة، فهؤلاء الصحفيون هم الذين صنعوا الرأي العام المناهض لمرسي والداعم للسيسي، وبالتالي فإن المستهلكين لرسالتهم الإعلامية سيتأثرون حتما بهذه التغيرات.

الدلالة السابعة، أن شباب الصحفيين كانوا هم الأكثر حضورا في الجمعية العمومية وفي الانتخابات، وهم الذين قادوا هذا التغيير في النقابة، وهم نموذج لبقية شباب مصر الراغب في التغيير. وإذا كان الشباب قد غابوا عن العملية السياسية (استفتاء التعديلات الدستورية وانتخابات الرئاسة) عقب الانقلاب كنوع من الإحباط أو الرفض الصامت لهذه السلطة، فإن هذا الشباب قادر على التغيير لو توفرت له الفرصة كما حدث عبر الاستحقاقات السياسية من قبل، وكما حدث في نقابة الصحفيين.

الدلالة الثامنة، أن الغياب النسبي للصحفيين الرافضين للانقلاب عن هذه الانتخابات ترشيحا وتصويتا تسبب في تأجيلها لمدة أسبوعين لعدم اكتمال النصاب في جولتها الأولى، وهذه رسالة مهمة أن هذا التيار لا يستهان به رغم محاولات تشويهه ومطاردته من السلطة.

الدلالة التاسعة، أن التحركات المحدودة لأسر الصحفيين السجناء واعتصامهم الرمزي نجحت في فرض قضيتهم كواحدة من أهم القضايا على أجندة هذه الانتخابات، وقد ظهر ذلك في بعض الوعود الانتخابية والهتافات والكلمات، وأن تلك التحركات لو استمرت فإنها كفيلة بدفع النقابة للتحرك الجدي.

الدلالة العاشرة، أن المؤسسات الصحفية القومية لا تزال هي صاحبة الكلمة العليا في حسم المعركة بحكم كتلتها العددية، وقد ظهر ذلك بفوز 5 من 6 من أعضاء المجلس من أبناء تلك المؤسسات.

لا نريد أن نفرط في التفاؤل، لكن من المؤكد أن تغييرا حدث في نقابة الصحفيين، وهو تغيير سيكون له أصداؤه في نقابات ومؤسسات أخرى، ولكن من المؤكد أن السلطة الحاكمة لن تقف مكتوفة تجاه هذا التغيير، خاصة أنها تمتلك أوراق ضغط ضد النقابة والصحفيين، والمؤسسات الصحفية القومية والخاصة، فهل يصمد الصحفيون ونقابتهم ونقيبهم في وجه هذه الضغوط؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام المقبلة.