مقالات مختارة

أشباه دول وأشباه جيوش

1300x600
هناك ما هو أهم من الأحاديث التي يرجع بها الصحفي من هذه العاصمة أو تلك. ليس من عادة المسؤول العربي أن يبوح فعلاً بمكنونات صدره وعميق مشاعره ومخاوفه حين يعرف أن الكلام سيأخذ طريقه إلى النشر. ما هو أهم، هو تلك الجمل القصيرة التي يمررها المسؤول أو السياسي بحجة مساعدة الصحفي على الفهم وبعد الاشتراط ألا تنسب إليه.

أتذكر الآن جملة سمعتها في بغداد قبل سنوات. قال السياسي أن أهل المنطقة لم يستوعبوا حتى الآن الأبعاد المترتبة على سقوط نظام صدام حسين. العراق بحكم موقعه جزء من توازنات تاريخية في هذا الجزء من العالم. انظر إلى المثلث العراقي - التركي - الإيراني. سقوط نظام صدام نزع حجراً أساسياً من جدار الأمن العربي، وبغض النظر عن الموقف من الرجل ونظامه، سقوط هذا النظام خلق معادلات جديدة وتوازنات جديدة، لم ينجح العرب في بلورة رد موحد يملأ الفراغ الذي أحدثه سقوط الضلع العراقي من المعادلة الإقليمية. بعد سقوط نظام صدام وانكفاء أمريكا هناك إيران جديدة وتركيا جديدة.

جملة أخرى سمعتها في دمشق قبل هبوب التصدعات التي سميت «الربيع العربي». قال المتحدث أن أمريكا استنزفت في العراق دم أبنائها وبلايين الدولارات من ثروتها، إضافة إلى صدقيتها وهيبتها. هناك حقائق جديدة في المنطقة وستضطر أمريكا، عاجلاً أم آجلاً، إلى التعامل مع القوى الحية في المنطقة. من الأقدر على منع إطلاق الصواريخ من غزة على إسرائيل حركة «حماس» أم السلطة الفلسطينية؟ ومن الأقدر على منع إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان «حزب الله» أم السلطة اللبنانية؟ أمريكا تعرف أن مفاتيح موقف الحركة والحزب موجودة في دمشق وطهران، وعليها بالتالي أن تأخذ ذلك في الحسبان على الرغم من خلافاتها مع العاصمتين.

وجملة في بيروت. قال المتحدث إن اغتيال الرئيس رفيق الحريري ليس حادثاً معزولاً عن الصراع الكبير في المنطقة. الحريري شخصية لبنانية وعربية وإسلامية ودولية، ولا يمكن اتخاذ قرار اغتياله بخفة أو بساطة. ثم إن اغتيال الحريري يعني شطب رجل معتدل يملك ترسانة من العلاقات العربية والدولية، حولته عقبة أمام محاولات تغيير موقع لبنان وإدراجه في معركة المحاور، وفتح حدوده في أكثر من اتجاه. اغتيال الحريري يعني دفع لبنان إلى نموذج مختلف وحروب أكبر منه.

وجملة يمنية أيضاً. زرت الزعيم اليمني الجنوبي لأساله عن علاقته بالرئيس علي عبدالله صالح، الذي كان يغالب رياح «الربيع اليمني». قال إن الوحدة اليمنية قسرية وزائفة، وأن أهل الجنوب سيغتنمون أي فرصة للتخلص من «الاحتلال الشمالي».

لنرجع من الجمل القصيرة إلى واقع اليوم. الجيش العراقي يقاتل مع ميليشيات «الحشد الشعبي» لتقليص سلطة «داعش» التي تحصنت في المناطق السنّية. ومسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان يقول إن الحدود الجديدة ترسم بالدم في العراق وسوريا واليمن. والجيش السوري يقاتل في جنوب البلاد مع «حزب الله» وميليشيات إيرانية لحرمان «الجيش السوري الحر» من آخر معاقله. ومرشد الجيشين العراقي والسوري هو الجنرال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس». وفي اليمن سقوط صنعاء في أيدي الحوثيين بعد نجاحهم في تشتيت الجيش اليمني ومصادرة قراره وأسلحته. وفي لبنان تعايش بين جيشين في جمهورية مقطوعة الرأس.  

إنها منطقة أخرى ولدت من أربعة مشاهد صاخبة. الأول اقتلاع تمثال صدام حسين، ثم إعدامه. الثاني اغتيال رفيق الحريري ومنع إلغاء مفاعيل الاغتيال. الثالث فصول «الربيع العربي» ودروس الحلقة السورية منه. والرابع إطلالة أبو بكر البغدادي من الموصل معلناً قيام «دولة الخلافة»، وإلغاء السدود والحدود. وحصيلة المشاهد الأربعة أشباه دول وأشباه جيوش. طائرة أمريكية في الفضاء وجنرال إيراني على الأرض.



(نقلاً عن صحيفة الحياة اللندنية)